هل جرى فعلا سحب الملف الفلسطيني من يد ابن سلمان ؟ وما هي الأسباب ؟
متابعات:
في خَطوةٍ مُفاجِئةٍ، لكن يبدو ضَروريّة، سَحَب العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز ملف القضيٍة الفِلسطينيّة من يَدِ نَجلِه ووليّ عَهدِه الأمير محمد بن سلمان بعد أن أدرَك حَجم الضَّرر الذي لَحِق بالمملكة من جرّاء بعض السِّياسات التي يتبنّاها الأخير، وأبرزها السُّقوط في مِصيَدة تأييد “صفقة القرن” وعَرّابيها جاريد كوشنر، صِهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وجيسون غرينبلات، مَبعوث أمريكا إلى الشرق الأوسط.
هذا الخَبر أوردته وكالة “رويترز” ونَسبته إلى مصادر سُعوديّة عالِية الاطِّلاع، وإن كُنّا نعتقد، نحن الذين نتعاطى مع وكالات الأنباء الأجنبيّة لأكثَر من أربعين عامًا، أنّ مِثل هذه الأخبار يَجري تسريبها من السُّلطات العُليا، سواء في المملكة العربيّة السعوديّة أو حتى الولايات المتحدة الأمريكيّة، بهَدف تَوجيهِ رسالةً إلى أكبرِ قِطاعٍ مُمكنٍ من المَسؤولين والقُرّاء، تُؤكِّد على حُدوثِ هذا التَّغيير.
القِيادة السعوديّة أرادَت من خِلال هذا التَّسريب طمأنَة الفِلسطينيين أوّلاً، والرأي العام العربيّ ثانيًا، والتأكيد على أنّها ما زالت على العَهد، ولن تُوافِق على أيِّ خُطَّةِ سلامٍ في الشرق الأوسط لا تُقِر بالقُدس المحتلة عاصِمةً للدولة الفِلسطينيّة، وتُشَرِّع حَق العودة للاجئين الفِلسطينيين، وهُما النُّقطَتان المِحوريٍتان اللتان أسقَطتهُما صفقة القرن، عندما جعلت من “أبو ديس” العاصِمة البَديلة، وأسقَطت حق العودة كُلِّيًّا، وبعد أن أدرَكت حجم الضَّرر الكبير الذي لَحِق بها ومكانتها عَربيًّا وإسلاميًّا ودَوليًّا.
النُّقطة الرئيسيّة التي أثارَت غضب قِطاعٍ عَريضٍ في أوساط الفِلسطينيين، سُلطَةً وشَعب، حماس وحركة فتح، تمثَّلت في نَقل وكالة “رويترز” نفسها عن مَسؤولين فِلسطينيين مُقرَّبين من الرئيس عباس قولهم أنّ الأمير محمد بن سلمان مارَس ضُغوطًا مُكثَّفة على الرئيس الفِلسطينيّ أثناء “استدعائِه” إلى الرياض في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، لدَفعِه إلى تأييد “صفقة القرن”، ونِسيان مدينة القُدس كعاصِمة للدولة الفِلسطينيّة، والقُبول بقرية أبو ديس كبديل، وعدم التَّمسُّك بحَق العودة للاجئين الفِلسطينيين، وتَردَّد أنّ وليّ العهد السعوديّ وعد بتقديم مُساعداتٍ بقيمة عَشرة مِليارات دولار للسُّلطةِ الفِلسطينيّة كدَعمٍ لها في حالِ قُبولِها هذه الصفقة، ولكن الرئيس عباس واجَه هذه الضُّغوط بقُوّة، ورفض التهديدات التي تَردَّد أنّها وُجِّهت إليه في حالِ الرَّفض، ومن بينها الإطاحة به.
أخطر ما في هذه الصفقة التي يبدو أنّ وليّ العهد السعوديّ اقتنَع بها، أنّها تتناقَض كُلِّيًّا مع مُبادرة السلام العربيّة التي تبنّتها قمّة بيروت العربيّة في آذار (مارس) عام 2002، وكانت في الأصل مُبادَرة سُعوديّة.
المَسؤولون السعوديّون الذين تحدَّثوا لوكالة “رويترز” أكّدوا أنّ تولِّي العاهل السعودي ملف القضيّة الفِلسطينيّة شَخصيًّا، وسَحبِه من وليّ عَهدِه لا يعني وجود خلاف بين الجانبين، أي الملك سلمان الذي أكَّد للرئيس عباس على تمسكه بالمُبادرة العربيّة، وبين وليّ عهده الذي قال في حديث لمجلة “أتلانتيك” الأمريكيّة في نيسان (إبريل) الماضي، أنّه من حَق الإسرائيليين العَيش بسلام على أرضِهم، وهو تَصريحٌ نادِرٌ من مَسؤولٍ سُعوديّ أو عربيّ في حجمه، وقد يكون العاهل السعودي أراد أن يُصحِّح مَوقِفًا وجد أنّه يُلحِق ضَررًا بمكانة بلاده وصورتها في أذهان العرب والمسلمين، خاصَّةً في هذا التوقيت الحَرِج الذي تَخوض فيه عِدَّة حُروب على أكثر من جبهة، سِياسيًّا وعَسكريًّا في الوَقتِ نَفسِه.
هُناك عِدَّة اعتبارات حتَّمت على العاهل السعودي المُبادَرة بسَحب الملف الفِلسطينيّ من وليّ عَهدِه، والعَودة إلى المَواقف السعوديّة المَبدئيّة الداعمة لمُبادرة السلام العربيّة:
ـ الأوّل: أنّ الحملة التي شنّتها مجموعات سُعوديّة قريبة من الحُكومة السعوديّة ضِد الفِلسطينيين واتِّهامِها ببيع أرضهم، والترويج للتَّطبيع مع إسرائيل باعتبارِها دولةً صديقة، أعطَت نتائِج عكسيّة ارتدّت سَلبًا على المملكة ومكانتها وصُورَتها كدولةٍ عربيّةٍ إسلاميّةٍ مِحوريّةٍ في العالمين العَربيّ والإسلاميّ، وزادَت من حملات الكراهية لها.
ـ الثاني: تحقيق الجيش العربي السوري إنجازاتٍ كبيرة في حُروبِه لاستعادة السِّيادة على مُعظَم الأراضي السوريّة، وآخرها المناطق الجنوبيّة بعد الغُوطة الشرقيّة، ومُواصَلة استعداداته لاقتحام إدلب، ممّا يعني فشل الحَرب السعوديّة في سورية التي استمرّت سبع سنوات، وعودة تدريجيّة لسُورية إلى المَسرحين العربيّ والدوليّ بقُوّة.
ـ الثالث: تَراجُع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن تهديداته لإيران، والإعراب عن استعدادِه للِقاء المَسؤولين الإيرانيين، والرئيس حسن روحاني تحديدًا، للتَّفاوض من أجل تسوية الخِلافات بين الطرفين، ودون أي شروط مُسبَقة، ممّا يعني أنّ الرِّهان السعوديّ على هُجوم أمريكيّ إسرائيليّ على إيران قد يَكون تَعرَّض للانهيار.
ـ الرابع: إعلان ماليزيا انسحابها من الحِلف الإسلاميّ الذي أسّسته المملكة قبل ثلاثة أعوام، وسَحب قُوّاتها الرمزيّة المُشارِكة في حرب اليمن، وتزايُد التوقّعات بإقدام السيد عمران خان، رئيس وزراء باكستان الجديد الحَذو حذوها، وفوق هذا وذاك صُدور قرار فرنسي بسَحب دعم فرنسا للتحالف العَربيّ في تِلك الحَرب.
ـ الخامس: فَشل الحل العسكري في حَسم الحرب في اليمن مع دُخولِها عامها الرابع دون وجود أي مُؤشِّر بأنّ هذا الحسم باتَ مُمكِنًا، بالنَّظر إلى غياب أي تطوّر إيجابي بارِز لصالح السعوديّة وحليفها الإماراتي في جَبَهاتِ القِتال، سواء في تعز أو الحديدة أو صعدة.
إنّ هذه المُراجَعة السعوديّة في المَلف الفِلسطينيّ المُتمَثِّلة في عودته إلى الملك سلمان الذي كان يتزعّم اللجنة السعوديّة لدَعم الشعب الفلسطيني لأكثر من ثلاثين عامًا، وهي اللجنة التي كانت تجمع التبرعات وتُشرِف على الأنشطةِ السياسيّة داخِل المملكة وخارِجها في هذا الإطار، تُشَكِّل تَطوُّرًا إيجابيًّا يَجِب أن يَتطوَّر ويَتعمّق.
ما يجعلنا في هذه الصحيفة “رأي اليوم” نُرَجِّح هذا التَّحوُّل، تَراجُع حِدَّة الحَمَلات والمقالات من قِبَل بعض الكُتّاب السعوديين التي تُمَجِّد التحالف مع العدو الإسرائيلي والتَّطبيع معه في الأسابيع الأخيرة، وأبرز المُؤشِّرات في هذا الصَّدد، اختفاء الدكتور أنور عشقي، حامِل هذا الملف، وابتعادِه عن الأضواء طِوال المُدَّة الماضِية، والشيء نفسه يُقال أيضًا عن الأمير تركي الفيصل، رئيس المُخابرات السعوديّة الأسبق، الذي تَخصَّص في حُضور المُؤتمرات واللِّقاءات مع نُظرائِه الإسرائيليين، وقِيادَة مَسيرة التَّطبيع.
رأي اليوم