آبي أحمد.. «نيلسون مانديلا المُسلم» الذي يسعى لجعل أثيوبيا دولة ديمقراطية كبرى
بعد عقود من الاستبداد السياسي في إثيوبيا، وسيطرة طائفة واحدة على السلطة، ومظاهرات أدت لمقتل المئات واعتقال الآلاف، صعد الرجل المنتسب إلى عرقية «أورومو» آبي أحمد إلى السلطة، ليكون أوّل مُسلم منتم لهذه الطائفة يتسلم مقاليد الحكم. لم تكن ديانة آبي أحمد هي التحول النوعي الوحيد فقط الذي طرأ على السلطة في إثيوبيا، بل نجم عنه عدّة سياسات إصلاحية، متضمنة إنهاء حجب مئات المواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية، وإطلاق الحريات والحقوق السياسية للجميع.
يرسم التقرير التالي صورة كاملة عن الرجل الذي يطمح لأن يكون «نيلسون مانديلا الجديد» في بلاده، عبر إنهاء سنوات من الخصومات الطائفية وسط مناخ تخيم عليه أجواء الاستبداد السياسي.
من مُقاتل في جماعة مُسلّحة إلى رئاسة الوزراء
لطائفة عاش أفرادها سنوات تحت ويلات الاضطهاد والاستبداد، خلال حُكم منجستو هايلي ماريام العسكري (1974 – 1991)، نشأ آبي أحمد في إحدى عائلات عرقية الأومورو، طفلًا بريئًا تفتحت عيناه على مشاهد التنكيل بطائفته وعائلته، وتعوّدت أذناه على صوت طلقات الرصاص من كُل صوب وحدب تجاه منزله.
وسط كُل هذا المناخ المغلف بالحصار والتهميش؛ كبُر الطفل ونما داخله غضب شديد ضد نظام حُكم منجستو، وقد ترجمه إلى الثورة بالسلاح؛ عبر الانخراط في بواكير السابعة عشر من عمره مقاتلًا في صفوف الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو كحال أغلب أبناء طائفته، حتى سقط حكم الأخير.
لاحقًا، اختار آبي أحمد الانتقال من العمل المُسلح خارج إطار الدولة إلى العمل تحت راية الدولة عبر الالتحاق بالجيش الإثيوبي عام 1991، والعمل في وحدة المخابرات والاتصالات العسكرية، والتي تدرج بها حتى وصل لرتبة عقيد عام 2007. كانت مهامه يغلب عليها جمع المعلومات وتنسيق الخطط الاستراتيجية، أكثر من كونها عملًا عسكريًا باعتباره مقاتلًا في الجيش الإثيوبي.
نال آبي أحمد طيلة سنوات عمله العسكري خبرات واسعة عززها العمل في مناصب ذات حساسية كبرى، مثل تأسيسه إدارة أمنية جديدة باسم «شبكة المعلومات الإثيوبية» والمُشاركة في الحرب الإثيوبية الإريترية، التي لعب دورًا فاعلًا فيها.
أدرك آبي أحمد أن طموحاته الواسعة وتركيبته الشخصية لا يلائمها البقاء طيلة حياته في الجيش الإثيوبي؛ ليستقيل من منصبه في وكالة أمن شبكة المعلومات الإثيوبية (إنسا) عام 2010، ويبدأ عملًا جديدًا متجاوزًا التقاليد العسكرية التي لطالما وضعت قيودًا على طموحاته السياسية، بعد أن تسلل لها عبر الانخراط باعتباره عضوًا تنظيميًّا في الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو، والتي تدرّج منها ليُصبح عضوًا في اللجنة المركزية للحزب، وعضوًا في اللجنة التنفيذية للائتلاف الحاكم في الفترة ما بين 2010 – 2012 .
كانت أولى خُطوت الصعود للسُلم السياسي إلى السُلطة بشكل فعلي عبر انتخابه عضوًا في البرلمان، والتي بدأ فيها استعراض رؤى جديدة لمشاكل بلاده، كي تخرج من النفق المُظلم الذي تعيشه من الطائفية والاحتقان الديني، فضلًا عن الاستبداد السياسي على الرغم من النمو الاقتصادي الهائل الذي حققته بلاده.
كان الاختبار الأول لآبي أحمد في عالم السياسة حين شهدت منطقة جيما مواجهات دينية بين المسلمين والمسيحيين، وأخذت طابعًا عنيفًا بينهما، حتى وقعت عشرات القتلى وخسائر في الممتلكات. حينها برز آبي أحمد في المشهد السياسي ليلعب دورًا محوريًا بالتعاون مع العديد من المؤسسات الدينية ورجال الدين، في إخماد الفتنة الناجمة عن تلك الأحداث وتحقيق مصالحة تاريخية في المنطقة.
لمع نجم آبي أحمد بوصفه سياسيًّا يمضي في مسارات غير تقليدية لإنهاء مشاكل بلاده عكس الساسة الآخرين، ساعيًا لوقف حمّام الدم الذي عصف بالبلاد من وراء الطائفية والاستبداد السياسي، ومعزّزًا تجربته الاستثنائية بدراسة مجالات مختلفة مثل نيله درجة البكالوريوس في هندسة الكمبيوتر، وماجستير في إدارة التغيير والتحول من جامعة جرينتش في بريطانيا (2011)، وبعدها ماجستير في إدارة الأعمال (2013) وأخيرًا دكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة أديس أبابا (2017).
بدا آبي أحمد باعتباره سياسىًّا قادمًا من خلفية عسكرية يحمل حلولًا ليست تقليدية لمشاكل بلاده، ومُثقلًا خبراته بدراسات متنوعة خارج بلاده؛ حتى تولى في الفترة من 2016 إلى 2017 منصب وزير العلوم والتكنولوجيا بالحكومة الفيدرالية، قبل أن يترك المنصب ويتولى منصب مسؤول مكتب التنمية والتخطيط العمراني بإقليم أوروميا، ثم نائب رئيس إقليم أوروميا نهاية 2016، وترك الرجل كل هذه المناصب لتولي رئاسة الحزب.
النمو الاقتصادي ليس الحل الوحيد.. خطة آبي أحمد لإنهاء سنوات الاستبداد
ينتمي آبي أحمد إلى المدرسة التي لا تنظر إلى أرقام معدلات النمو الاقتصادي باعتبارها مُؤشرًا وحيدًا على التنمية؛ فالنهضة، من وجهة نظره، لها بعدان: الاقتصادي والسياسي، بما يقتضي أن تتوازى معدلات النمو مع إحراز تقدم في الحقوق والحريات، وتُظهر الأرقام الصادرة من البنك الدولي ارتفاع حجم النمو الاقتصادي لإثيوبيا خلال السنوات الفائتة، لتصبح الدولة الأكثر نموًا بين عامي 2007 إلى 2012، وتوقع زيادة للنمو السنة الحالية بنسبة 10%.
قبل الصعود لمنصب رئيس الوزراء في فبراير (شباط) 2018؛ كانت أدوار آبي أحمد داخل دوائر السلطة تتّسع، وحضوره داخل الأوساط السياسية أكثر نفاذًا مما كان. عزز هذا الحضور الضغوط التي مارسها على الحكومة الإثيوبية من داخل الائتلاف الحاكم، من أجل وقف خطتها للاستيلاء على أراض بمناطق قبيلة الأورومو لإدخالها ضمن خطة التنمية والاستثمارات.
ويتكون الائتلاف الحاكم الذي تشكل عام 1989 من: جبهة تحرير شعب تجراي، والجبهة الديمقراطية لشعب أورومو، والحركة الديمقراطية لقومية أمهرا، والحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبي، وهو الائتلاف الذي يختار رئيس الوزراء ويتألف من 180 عضوًا.
كما لعب دورًا هامًا كذلك في تحفيز الائتلاف الحاكم للضغط على الحكومة الإثيوبية للإفراج عن المحتجين من قبائل الأورومو، وتستجيب الحكومة المنتمي رئيس وزرائها إلى أقلية التيجري لهذه الضغوط، عبر صدور سلسلة قرارات تتعلق بالإصلاح السياسي، منها غلق أكبر معتقل سياسي وتحويله لمتحف، ودخول أعداد كبيرة من طائفة أورومو لعضوية الحزب المشارك بالحكم.
منح هذا الحضور السياسي الواسع والنفوذ الكبير ثقلًا لآبي أحمد داخل التحالف الحاكم جعله الاختيار الأوّل للتحالف حين استقال هايلماريام ديسالين، في إعلان عبر التلفزيون، لأسباب لها علاقة باستمرار الإضرابات السياسية وعدم الاستقرار الاجتماعي، ليصبح آبي أحمد أول رئيس وزراء من عرقية أورومو يحكم إثيوبيا.
بدأ الشاب الأربعيني ولايته بتصميم خطّة جديدة يُنهي من خلالها سنوات من الاستبداد السياسي والطائفية التي ذهبت بأرواح مئات الآف نتيجة لها. كان العامل الأساسي لها هو أن تكون الديمقراطية هي الضامن الأساسي لمفهوم التنمية؛ باعتبارها مفتاح النمو الاقتصادي والسلم الاجتماعي.
تجلى ذلك في إنجاز مصالحة وطنية كبيرة بين كافة الطوائف، وإطلاق قناة اتصال مفتوحة مع المعارضة المنفية في الخارج، ولقاء وفد منهم، تكلّل برفع ثلاث جماعات معارضة من على قوائم الإرهاب، فضلًا عن التخفيف من القبضة الحديدية التي كانت تحكُم بلاده عبر إحالة خمسة من كبار المسئولين للتقاعد، بينهم رئيس الاستخبارات، وقيادات في الجيش ممن ثبت تورطهم في قمع احتجاجات 2015، وإصدار قرار بالعفو عن 757 من السجناء السياسيين المُدرجين على قوائم الإرهاب من جانب الحكومة السابقة، فضلًا عن رفع الحظر عن قنوات المعارضة التلفزيونية، ورفع حالة الطوارئ.
لم تقف الإجراءات عند هذا الحد فحسب؛ بل شملت كذلك رفع الحجب عن أكثر من 200 موقع صحفي وإخباري كانت قد حجبتهم الحكومة السابقة، وتصميمه لسياسة جديدة تستهدف وقف انتهاكات الشرطة وانخراطها في عمليات التعذيب الوحشي تجاه السجناء السياسين، وهو ما ظهر في خطابه أمام البرلمان الذي علّق فيه على انتهاكات الشرطة: «هذا انتهاك للدستور. كان رجال الشرطة إرهابيين!».
كانت أولى ثمار هذا المناخ الجديد من الحريات والحقوق السياسية للجميع تخلّي طائفته عن السلاح وعن المقاومة المُسلحة، خصوصًا مع عودة عدد كبير من أبناء طائفته المنفيين خارج البلاد لأسباب سياسية، والسماح لهم بدخول البلاد.
واحد من هؤلاء هو العميد هايلو جونفا، نائب رئيس الجبهة، الذي عاد من المنفى بعد 20 سنة، وبرر التخلي عن المقاومة المسلحة بما ذكره أن «المقاومة العسكرية التي كانت تخوضها الجبهة ضد الحكومة في الماضي، كانت بسبب غياب الحريات» وقال إن سياسات آبي أحمد ستكون دافعًا لنا للمُشاركة في السياسة والانتخابات «لدعم المرحلة الحالية التي تمر بها التجربة السياسية الإثيوبية، وصولا إلى نظام ديمقراطي يسع كل الأحزاب».
في خطاب تتويجه في منصب رئيس الوزراء، رسم آبي أحمد ملامح خطته نحو الشعب من مختلف الطوائف، قائلًا :«تطبيق دستور إثيوبيا ينبغي أن يتم بطريقة تفهم الحرية»، لا سيما حرية التعبير وحقوق التجمع وتكوين الجمعيات .وأضاف: «الجميع مطالب أن يتسامح لاستمرار وحدة بلادنا، ونتجاوز ميراث الطائفية والدم».
وتجلت خطته الاحتوائية دون الميل للصدام المُسلح في التعامل مع المشاكل الداخلية والخارجية لبلاده في إنهاء أبي أحمد للأزمة بين بلاده وبين إريتريا، والتي استمرت نحو 20 عامًا بعد حرب حدودية، بعد زيارته لإريتريا وتوقيعه اتفاقًا مع رئيسها على استئناف العلاقات بين البلدين.
هل ينجح آبي أحمد في استكمال خطته لتغيير بلاده؟
تبدو الآمال المنعقدة على آبي أحمد كبيرة وطموحة في ظل التحركات الأخيرة التي يسعى لإنجازها، سواء على مستوى الحقوق والحريات، لكنها في الوقت نفسه تصطدم بالنفوذ الواسع لعدد كبير من المسؤولين داخل الأمن والجيش والاقتصاد، ممن يرمز لهم بالدولة العميقة، والتي تقف أمام هذه التغييرات بكُل ما أوتيت من قوة، خصوصًا أنها ستنهي مكتسبات تحققت لهم على مدار عشرات السنوات.
حسب تصريحات منشورة للمحلل السياسي الإثيوبي هالوج لولي في للجزيرة نت، فإن أكبر تحد يواجه آبي أحمد هو رفع حالة الطوارئ «لأن رئيس الوزراء لن يصبح رئيسًا بتفويض كامل بينما تسيطر المؤسسة العسكرية والأمنية على الأوضاع السياسية والأمنية» حسب هالوج لولي.
يقف العامل الآخر أمام استمرار خطة آبي أحمد، المنحدر من عرقية أورومو المُسلمة، هو الغضب الواسع من جانب طائفة تيغراي، التي تحكم إثيوبيا منذ عام 1991، والمتهمة بالاستحواذ على المناصب الحكومية والعسكرية المهمة، رغم أنها لا تمثل سوى نسبة قليلة من سكان البلاد.
ويُشار إلى أن هذه الطائفة لن تقف صامتة أمام الإجراءات التي يسير نحو تنفيذها آبي أحمد، خصوصًا إذا ما سرع من وتيرة حملة الإقالات للوجوه المحسوبة عليها داخل الدولة، وأصدر سلسلة قرارات من شأنها تحجيم نفوذها داخل دوائر السلطة والسياسية.
يؤشر على ذلك محاولة الاغتيال التي تعرض لها رئيس الوزراء الجديد أثناء وقوفه في حشد ضم الآلاف من مؤيديه وسط العاصمة أديس أبابا، عبر إلقاء قنبلة يدوية استهدفته أثناء إلقاء خطاب أمامهم. هذه المحاولة التي وصفها آبي أحمد بأنها «مدبرة من قبل من لا يريدون أن يروا إثيوبيا موحدة»، اعتقد الكثيرون أنها محاولة من المحسوبين على الدولة العميقة داخل السلطة في إثيوبيا، والتي لها غلبة واسعة داخل الشرطة الفيدرالية التي يدين أغلب أفرادها بالولاء لطائفة تيغراي.
وتأكد ذلك من احتجاز السلطات، بعد هذه الواقعة، نائب رئيس الشرطة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مع ثمانية ضباط آخرين يخضعون جميعا للتحقيق بشأن «التقصير الأمني» في موقع الحادث.