كل ما يجري من حولك

العبودية في ثوب أبيض.. كيف يحول نظام الكفالة في الخليج الوافدين إلى «عبيد»؟

699

متابعات| شفقنا:

مع بداية تدفق النفط في دول الخليج، تدفقت أيضًا أعداد كبيرة من الباحثين عن قوتهم في معادلة من احتياج الطرفين لبعضهما البعض، صحراء جرداء تملك المال الأن لتناطح أعلى الأبراج في شتى أنحاء العالم. أصبحت بحاجة لمن يشيدها ليتنحى لونها الأصفر جانبًا.

وكما تجردت تلك الصحراء من رمالها، جردت الكفالة حقوق الوافدين، اليوم هذا النظام يتم استنكاره عالميًّا، إذ يحظى بصورة تتيح انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية. بفرض سلطة اقتصادية وقانونية على الوافد مخولة من قبل الحكومات للمواطنين.

الآن يعيش أكثر من 17 مليون أجنبي في دول الخليج الست، ويرتفع العدد الكلي إلى 23 مليونًا أو أكثر، بعد إضافة أفراد أسر العمالة الوافدة، أي قرابة نصف السكان، البالغ عددهم 48.8 ملايين، بحسب أرقام المركز الإحصائي لدول المجلس.

 

حقوقٌ من ورق

يتحصل نواز على تأشيرة عمل في المملكة بعد أن ضاقت به سبل العيش في الهند، لكن بعد فترة من العمل تحت يد أحد الكفلاء السعوديين تراوده بعض الأفكار بأن يغير عمله ويذهب إلى كفيل آخر، تلك ببساطة هي أحلام نواز، أن يجد من يقدر إنسانيته دون قانون يفرض ذلك.

لكنه لم يحظ بهذا الحلم بسهولة حينما ارتطمت أحلامه بالواقع، إذ ابتزه الكفيل ليوافق على الانتقال إلى شخص آخر، فعلى نواز أن يدفع 5300 دولار للتراضي بينهما بعد أن أبلغه الكفيل بنقرة على الحاسب أنه متغيب عن العمل، ويتوجب على السلطات ملاحقته.

يتشبَّث نواز بحلمه، ويدفع للكفيل المبلغ المطلوب مقابل أن يحصل على ما يرجوه، وها هو قد أصبح الآن يعمل لدى كفيلٍ آخر، وقد ابتسمت له الحياة ليبدأ في جمع المال والذهاب به لاحقًا إلى وطنه. لكن تلك البسمة ذهبت أدراجها حينما أبلغه الكفيل الجديد حين إنهاء الإجراءات أنه ما زال تحت الملاحقة القانونية.

ليوافق على طلب الكفيل المزيد من المال مع جواز سفره لتسوية المسألة قانونيًّا. لا تكفي تلك الأموال الكفيل؛ فيطلب المزيد للمرة الثالثة، حينها فقط أكتفى الكفيل بهذا القدر ليحجب رقم نواز على هاتفه. يصرخ حال نواز في كلماته:

اليوم وضعي القانوني أنني مخالف دون ذنب مني. لا يمكنني أن أتنقل أو أعمل. مر عام عليّ دون عمل. لم أستطع إرسال مال إلى أهلي لفترة طويلة، وأنا المسؤول الوحيد عنهم. دفعت مبالغ كبيرةً للكفيل، واستدنت من أصدقائي، ونمت جائعًا لليالٍ كثيرة.

على الرغم من أن نواز كان بإمكانه اللجوء للمحاكم السعودية لحل مشكلته، إلا أن تفضيله التفاوض مع الكفيل والسقوط في الديون يبين طبيعة علاقة المهاجر بالنظام القانوني. والآن على نواز قبل أن يعود إلى وطنه دفع مبلغ مالي، وقضاء فترة في السجن لتغيبه عن العمل. فميزان الحق بين الكافل والمكفول غير متزن ليسمح للوافد أن يجد قنوات قانونية ليحمي حقوقه.

لا يختلف الأمر كثيرًا في بلدان الخليج، حين يحاول الوافد المطالبة بحقوقه حتى وإن سُطرت بعض تلك الحقوق على أوراق، لا تكفل في النهاية على الأقل التحصل على حرية التنقل، أو المقابل المادي لعمل الوافد.

 

 

وطنٌ بلا عبيد

تعرضت منطقة الخليج لانتقادات شديدة من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، سعت على أثر ذلك دول في الخليج العربي مثل البحرين وقطر إلى إيجاد صيغة جديدة لتنظيم عمل الوافدين لديهما. حينما أعلنت «منظمة العفو الدولية» 2014 عن انتقادها لظروف العمل في قطر، خاصةً مع التحضيرات لكأس العالم 2020، وقد عبرت قطر حينها عن اهتمامها بالتقرير، وتلاها في عام 2015 إلغاء قانون الكفالة واستبداله بعقود عمل، تلى ذلك تصريح مفوض حقوق الإنسان في الأمم المتحدة زيد رعد الحسين: «مما رأيناه في هذه الزيارة فإن تقدمًا قد تحقق، ونحن مقتنعون بوجود إرادة حقيقية للتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان».

البحرين بدورها كانت قد صرحت بإلغاء نظام الكفالة في 2010، إلا أن هذا القانون لم يدخل حيز التنفيذ الفعلي إلا في عام 2017. أيضًا في سبتمبر (أيلول) 2010، وعدت الكويت بإنهاء نظام الكفالة في فبراير (شباط) 2011، وصرح وزير العمل العفاسي حينها بأن «إلغاء الكفالة ستكون هدية الكويت للعمالة المهاجرة في ذكرى تحرير البلاد من الاحتلال العراقي»، ويعد تزامن هذا التصريح مع تلك المناسبة من أفضل الصور التعبيرية عن فحوى هذا القانون في التخلص من سطوة أحد البشر على غيره فقط لجنسيته. ومع الوعود المتتالية لم تشهد الكويت تغيرًا على أرض الواقع.

هذا الوعد لم يكن كافيًا ليحمي «جوانا دانييلا» في 2018 -عاملة في خدمة أحد المنازل في الكويت- من أن ينتهي بها المطاف جثة هامدة بعد الخنق في ثلاجة المنزل. لم تكن تلك هي الحادثة الأولى من هذا القبيل كما وضح الرئيس الفلبيني «رودريغو دوتيرتي» في خطابه بتاريخ 19 يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، ملوحًا بصور عاملات فلبينيات تعرضن لانتهاكات في الكويت.

 

السعودية.. الأكثر تعقيدًا

بلغ عدد السكان غير السعوديين في المملكة نحو 12.2 مليون نسمة، وهو ما يمثل حوالي 37٪ من إجمالي عدد السكان. فتحتل السعودية بذلك مقدمة دول منطقة الخليج بعدد الوافدين على أراضيها، وتصبح نموذجًا لعدسة تسلط الضوء على نظام الكفالة.

في مارس (آذار) 2016، يستيقظ العاملون في نشاط بيع أجهزة الهاتف النقال وصيانته، ليجدوا أمامهم القرار رقم 1592 أن جميع الأعمال في نشاط بيع أجهزة الهاتف النقال وصيانته وملحقاته ستقتصر على المواطنين السعوديين. كان على أرباب العمل في قطاع الهواتف المحمولة استبدال 50٪ من موظفيهم الوافدين بالموظفين السعوديين بحلول 6 يونيو (حزيران) 2016. وبحلول 3 سبتمبر 2016، كان على أرباب العمل في سوق الهواتف النقالة وملحقاتها أن يكون لديهم قوة عاملة سعودية وطنية بنسبة 100٪.

على هذا النحو تنتهج السلطات السعودية «سعودة» قطاعاتها للتقليل من حجم بطالة المواطنين، هذا بغض النظر عن عقود تلك العمالة الوافدة. فهي حين تحرز بعض التقدم في نظام الكفالة كحماية الأجور، فهي بالمقابل تشرع في سن قوانين أخرى من شأنها تضييق الخناق على الوافدين. فبين مطرقة قرارات حكومية بين ليلة وضحاها وسندان الكفيل، يجد الوافد نفسه.

وتحاول السلطات السعودية إدخال تعديلات على قانون الكفالة الخاص بها تحت الضغوط الدولية من منظمات حقوق الإنسان، إلا أن البعض يرى أن المحاولات السعودية صورية، وأنها لا تضمن حقوق الوافدين المنشودة في ظل الانتهاكات الصارخة التي تنهار أمامها تلك التعديلات.

 

 

تسييس الأجور

فندق «ريتز كارلتون» الذي احتجز به النظام السعودي عددًا من الأمراء بتهمة الفساد، وغيره من المنشأت الفارهة في المملكة قامت على تشييده شركة «سعودي أوجيه» المملوكة لرئيس الوزراء اللبناني «سعد الحريري». وكانت «سعودي أوجيه» تشغل نحو 40 ألف عامل من 30 جنسية، وتستحوذ على أكبر المشاريع العقارية في السعودية إلى جانب شركة بن لادن، وبدأت الشركة تعاني في نهاية عام 2014 من مشاكل مالية، وصلت حد العجز عن دفع رواتب العمال.

لم تدفع الرواتب، ولم تضمن الدولة حقوق هؤلاء الموظفين، لكن هذا الأمر لم يلق صداه المرجو إلا حينما اضطربت المصالح بين الحريري والحكومة السعودية. لتعمل الأخيرة على تسييس معاناة هؤلاء الموظفين في الضغط على الحريري، وقد غضت النظر عن أن تلك الحقوق المطلوبة من الحريري، طلبت حينها من شخص يحمل الجنسية السعودية، ومالك شركة سعودية تعمل على أراضي سعودية، وتلك الحقوق لوافدين على الأراضي السعودية، فهل السلطات السعودية لم تمتلك سوى التنديد بالموقف إلا في 2018، حين اختلفت سياستها مع الحريري في لبنان؟

 

إما أن تغادر الحياة وإما أن تغادر السعودية

يحكي أحد اليمنيين المقيمين في السعودية لإحدى منظمات حقوق الإنسان أنه يوم 27 رمضان اختطفني ضابط شرطة سعودي بين الساعة 3:30 و8:30 مساءً. اختطفني بالقرب من منزلي، وسرق مني 5300 ريال سعودي وهاتفي المحمول، ثم أخذني في سيارة بدون أرقام إلى خارج المدينة. وهددني بمسدس قائلًا إنه سيقتلني إذا تكلمت. وفي الثامنة مساءً أخذني إلى الحدود اليمنية وقال لي: «إما أن تغادر الحياة وإما أن تغادر السعودية». وعند الحدود اتصلت بكفيلي حتى يأتي لأخذي، إذ كانت شريحة تعريف الهاتف المسروق ما تزال معي.

كان كفيلي طيبًا، فأخذني إلى الشرطة لتقديم شكوى مما حدث، واعتقلوا الضابط وأخذوه، لكن المحققين ضغطوا عليّ بعد ذلك للتنازل عن القضية. وسمعت أن الضابط خرج من السجن بتقرير طبي يقول إنه يعاني من مشاكل نفسية. طلبت من الشرطة حمايتي من ذلك الضابط، لكنه ظل يتصل بشركتي ويسأل عني حتى بعد رمضان، وكان يحاول العثور عليّ لمضايقتي.

أما عن مينا، عاملة منزلية إندونيسية، حين صرحت أنها عندما تعود إلى بلادها فربما تعود مُعدمة، فتتحدث عن قصتها مع صاحبة العمل التي تضربها بسلك كهربي لساعات طويلة «في النهاية قالت: صاحبة العمل، غيري كانت لتعيدك إلى بلدك لكنني لن أفعل. لديك خيار من اثنين: إما أن تعملي دون راتب وإما تموتين هنا. وإذا مُتِ فسوف أخبر الشرطة أنك انتحرت. حتى إذا كنت رضيت بالعمل دون أجر، فلا أضمن أنني لن أتعرض للضرب. لهذا هربت. كانت كل الأبواب موصده ولا مخرج أمامي، فحتى النوافذ عليها قضبان حديدية، لكن كانت توجد حفرة في منفذ التهوية في دورة المياه وهربت منها. وقبل الهروب صليت ودعوت الله أن يساعدني، ورغم أن جسدي كان متسخًا للغاية بما أنها لم تسمح لي بالاستحمام لمدة شهر؛ صليت».

تُظهر تلك الحالات عوامل كثيرة في عزلة الوافدين، منها الضغوط المالية، واقتصار القدرة على التماس المساعدة. وربما لا يرى الوافد أي سبيل للخروج من المواقف المنطوية على الإساءة. وبسبب ارتباط تصاريح العمل بأصحاب العمل، فإن ترك الوظيفة أو فقدانها يعني الترحيل الفوري للعامل. ويصادر أصحاب عمل كثيرون جوازات سفر الوافدين لديهم وتصاريح عملهم.

ومع الأوضاع الاقتصادية المشوشة في بلدان الخليج المعتمدة بالأساس على ثقافة النفط، تصوب السعودية سهامها باتجاه الترحيل الجماعي للوافدين، وإصدار قوانين من شأنها الضغط على العمالة الوافدة للرحيل. إلا أن أوضاع ذلك الترحيل القسري من خلال حملات على المساكن والشركات، والقبض على المخالفين لنظام الإقامة القائم على ألا يستطيع الوافد تغيير وظيفته أو من يكفله، يضع الكثير من الوافدين تحت بند المخالفين.

أدى ذلك إلى حدوث مناوشات، وأوضاع مهينه لتلك الفئة، يقول أحد اليمنيين ممن كانوا ضحية تلك الممارسات: «كانت ظروف السجن رديئة، لا توجد حمامات نظيفة ولا حواجز، فكنا نرى غيرنا يستخدمون المرحاض. وقد أخذوا البطاريات من هواتفنا، وكذلك بطاقات التعريف، لكن بعض الأشخاص رفضوا تسليمها فضربهم الحراس بالأسلاك».

ولا شك أن كفلاء كثيرين يسعون جاهدين إلى توفير ظروف العمل اللائقة والمحترمة، ولكن رغم ذلك فإن النظام حافل بطبيعته بالفرص التي تتيح لأصحاب العمل انتهاك الحقوق الأساسية للعمال المهاجرين. وترى «منظمة العمل الدولية» أن أكثر نقطة سلبية في نظام الكفيل تكمن في تفويض الدولة المسؤولية إلى صاحب العمل من القطاع الخاص.

وقد يقف اليوم أمام حرية الوافدين من نظام الكفالة تخوف حكومات تلك المنطقة من التغيرات الديموغرافية، إذا ما سمحت بتجنيس هؤلاء الذين قضوا سنوات طويلة في العمل على أراضيها، فالكثير من الوافدين تحولوا على أرض الواقع إلى مهاجرين لا يحبذون العودة إلى أوطانهم. خاصةً الهجرات العربية، التي تمكث لفترات طويلة، وتحاول التداخل والانسجام مع المجتمع مستفيدة من المقومات التي تساعدها في ذلك.

You might also like