لم تتمكن محاولات الفرصة الأخيرة في عدن من نزع فتيل الصدام العسكري الذي حدث صبيحة الأحد بين الطرف الجنوبي «المجلس الانتقالي الجنوبي»، وما يمتلكه من قوات «الحزام الأمني» والأمن العام وبعض الوحدات العسكرية، وبين قوات السلطة اليمنية المعترف بها دولياً «الشرعية» التي يقودها الرئيس عبد ربه منصور هادي و«حزب الإصلاح». تلك المحاولة التي قادتها الإمارات قبل 24 ساعة من حدوث الانفجار، برغم حالة التفاؤل التي ظهر بها كثير من المراقبين والمترقبين بقلق من هذه الأزمة الحادة بين الطرفين، فلم تمُرُّ بضعة ساعات من تلك المحاولة «الوساطة» إلا وحدث ما كان يخُشى حدوثه، في أول يوم لانتهاء المهلة التي حددها «الانتقالي» للرئيس هادي لإقالته حكومته.

هذا الصدام الذي شمل ــ وما زال حتى كتابة هذه السطور مساء الأحد ــ كل الوحدات العسكرية في عموم المدينة تقريباً، وطاول رئاسة الوزراء وكثيراً من المرافق المهمة التي استطاعت فيه قوات الانتقالي، بما فيها قوات «الحزام الأمني» وبعض الوحدات العسكرية والأمنية الأخرى، بمؤازرة جوية إماراتية، أن تقلب موازين القوى على الأرض بشكل كبير(إن لم يستجد بالأمر جديد طبعاً)… لم يكن مفاجئاً لكثير من المتابعين بدقة لمجريات الأمور بعدن والجنوب عموماً في الأشهر الأخيرة. فالصدام هو صدام مؤجل، متوقع لعدة اعتبارات، أهمها أن الجنوب يمور بعدة قوى يمنية وإقليمية، بمشاريعها السياسية ومصالحها المتضاربة، لعل أبرزها مشروعا الدولة اليمنية الاتحادية من ستة أقاليم، والذي يصر على فرضه الرئيس هادي و«حزب الإصلاح» بوجه القوى الجنوبية التحررية التي تتمسك بخيار استعادة الدولة الجنوبية. وبين المشروعين تقف بقوة المصالح الخليجية,،والخصومة الإمارتية مع حركة «الإخوان» باليمن، الخصومة التي تلقي بظلالها الداكنة دوماً عند كل منعطف شمالاً وجنوباً.

البعض يربط بين تسارع هذه الأحداث العسكرية وبين الحراك الدبلوماسي الدولي والإقليمي الأخير الذي صارت سلطنة عمان قِبلتهُ بغية الدخول بتسوية سياسية للأزمة اليمنية بعد أيام من تغيير المبعوث الدولي لليمن إسماعيل ولد الشيخ أحمد. ولكن هذا الحراك الدبلوماسي لم يكن هو الدافع الأساسي لما حدث، وإن كان قد عجل به بحسب ما يراه البعض اعتقاداً بأن الامارات أرادت تسوية الأرضية الجنوبية لطرف جنوبي تضع فيه الثقة بعيداً عن هيمنة «حزب الاصلاح» (إخوان اليمن)، قبل الشروع بتسوية منتظرة. لكن تظل الخلافات العميقة بين المشاريع السياسية المتعددة وتصادم المصالح هي التي فجرت الأمور على هذا النحو الدراماتيكي الساخن.

لا شك بأن الإمارات قد لعبت وما تزال الدور الرئيس والمؤثر بالأحداث في الجنوب، في ظل انكفاء الرياض على نفسها، وهو الدور الذي حاولت القوى الجنوبية والمجلس الانتقالي الجنوبي الاستفادة منه بعد طول انتظار. فالنصر العسكري الجيد الذي حققه «الانتقالي الجنوبي» على الأرض يوم الأحد بكثير من مناطق العاصمة عدن، هو أبرز ثمار تعاونه مع الإمارات، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق منذ بداية الحرب.
حكومة أحمد عبيد بن دغر، المعترف بها دولياً، شكّل فسادها وفشلها في إدارة المدينة القشة التي قصمت ظهر البعير، مضافاً البيان الصادم لوزير داخلية بن دغر، عبّر فيه الأخير عن امتعاضه من الدور الإماراتي مما حصل بعدن، في اتهام صريح منه للإمارات بشن حرب على حكومته. وهذا الامتعاض الذي كان له صدى لدى «الشرعية» وحكومتها، هو الأول الذي يبديه الرجل حيال الطرف الإماراتي بعد طول مهادنة وتجنُب، أراد به إرسال رسالة للجانب السعودي يجأر به لديها مما صار له ولقواته من تعدٍّ. وحاول أن يسقط ما جرى في عدن يوم الأحد على ما جرى في صنعاء عام 2014م، لدق إسفين بين أبوظبي والرياض بعد أن نفد صبره وصبر حكومته من ما يعتبره تطاولاً إماراتياً، ولاستدرار عطف وتخوفات الجانب السعودي وعزفه على وتر «التدخلات الإيرانية» بقوله: «إن اليمن تتمزق لأننا نصمت ولا نصرخ ونخاف قول الحقيقة»، مؤكداً أنه «يجري في صنعاء تثبيت الانقلاب على الجمهورية، وهنا في عدن يجري الانقلاب على الشرعية… لا تذهب جهود العرب ودماؤهم في اليمن، إلى سقوط الوحدة وتقسيم اليمن، ما يحدث في عدن جريمة لا تقل فداحة عن جريمة الحوثيين بصنعاء.

فضلاً عما يخشاه الرجل من خروج مهين من رئاسة الوزارة التي اعتراها كثير من التعثرات وطالها كثير من المآخذ والتهم، لكن مستبعد أن الطرف السعودي مستعد في هذا الوقت للمجازفة بعلاقته الاستراتيجية مع شريكه المميز: الإمارات، في وقت تشهد فيه العلاقات السعودية الخليجية تدهوراً كبيراً، كان آخرها سوء العلاقة مع الكويت.
الموقف السعودي قد لا يكون راضياً عن التصرف الإماراتي الأخير، ولكنه ظهر كمن يتقبله على مضض، وسيتقبل تبعاته بمرارة، ربما إلى حين، فالصدر السعودي لا يبتلع التجاهل والإهانة بسهولة، حتى وإن أتتا من أقرب حلفائه، فهذا الصدر مستودع هائل من الحقد والضغينة، وقد كان هذا الرضاء السعودي تجاه الدور الاماراتي بعدن واضحاً من خلال البيان الذي أصدره «التحالف» حول التطورات بعدن، وهو البيان الذي كان مخيباً لآمال «الشرعية» وحكومة بن دغر، حين بدأ متوازناً وأمسك العصا من المنتصف بين الفرقاء، بعكس مع كان يأمله الطرف الحكومي، الذي ظل وما زال يأمل أن تدرج الرياض الطرف الجنوبي (الانتقالي) بخانة «الطرف الانقلابي»، حيث قال البيان: «يتابع تحالف دعم الشرعية في اليمن، مجمل الأحداث والمستجدات في العاصمة اليمنية المؤقتة (عدن) وما يدور من سجال إعلامي في هذا الإطار حول بعض المطالب الشعبية إزاء تقويم بعض الاختلالات في القطاع الحكومي، ويدعو كافة المكونات السياسية والاجتماعية اليمنية إلى التهدئة وضبط النفس».

لكن…إلى أين يمضي الجميع؟
من خلال التطلع إلى صورة المشهد العام في الجنوب، واليمن عموماً، والمنطقة بشكل أشمل، لا نعتقد أن ما جرى سيكون خاتمة الخلاف بين الطرفين، الانتقالي والحكومي، ولا حتى الفصل الثاني من مسلسل السجال السياسي والعسكري، حتى وإن تمت إقالة الحكومة، بل وحتى بعد أن أحرز الانتقالي بعض المكاسب العسكرية الجيدة على الأرض. فالأزمة اليمنية، بما تحتويه من قضية جنوبية بعيدة عن أولويات الحلول الخليجية، ما تزال معقدة ومتداخلة الأسباب والحلول واللاعبين الكُثر، ولها امتداداتها الإقليمية والدولية، وتسويتها الشاملة مرتبطة بأطراف ومصالح إقليمية ودولية كبيرة، ناهيك عن محلية، ضمن مصالح المنطقة عموماً. وبالتالي، يمكن القول إن ما جرى أخيراً على الأرض، وإن بدأ مريحاً للطرف الجنوبي، إلا أن الخروج من ظُلمة النفق والإفلات من مخالب الأطراف الإقليمية وأنياب القوى اليمنية ما زال بعيد المنال إلى حد كبير، أمام الجنوبيين على الأقل، وما تزال الأمور، بما فيها العسكرية، مرشحة لمزيد من التعقيد والصدام.