كل ما يجري من حولك

الجنوب.. تجارةٌ سياسيةٌ مصبوغةٌ بالدم

612
متابعات| العربي| صلاح السقلدي:
حين يقول قائد أمني جنوبي رفيع يوالي «الشرعية»، بحجم العقيد أبو مشعل الكازمي، مخاطباً الرئيس عبدربه منصور هادي، حول مصير مئات من المجندين الجنوبيين الذين يساقون كقطعان ماشية لخوض حرب مجهولة الأهداف والمصير على الحدود الشمالية لليمن مع المملكة العربية السعودية، ويتم إيقاعهم بمكيدة ليست بالحسبان: «هناك آلاف الجنود في السعودية ذهبوا للتدريب في مكافحة الإرهاب تسعة شهور دون رواتب، وبالأخير يتم الزج بهم في مواقع الموت والجحيم واسترخاص دمائهم وجوع أطفالهم وأسرهم». وحين تتواتر الأنباء من مصادر جنوبية موثوقة تتحدث عن العشرات بل المئات من الجنوبيين قد قضوا، وجرحى ومفقدوين خلال الأيام القليلة الماضية بالحرب الدائرة رحاها في الساحل الغربي لتعز، وفي منطقة الخوخة بالذات. وحين تتحدث بعض مشافي عدن عن وصول العشرات من الجرحى والجثث الممزقة إليها تباعاً، وإلى ذوي القتلى بعدة مراكز صحية ومفارز عسكرية، فهذا يؤكد صحة ما ظللنا نخشاه ونحذّر منه طيلة الفترات السابقة من أن شباب الجنوب أصبحوا وقوداً لحرب قوى إقليمية ويمنية لئيمة خارج الحدود الجنوبية، لا علاقة للجنوب بها، قوى تستغل جوع وأوجاع هؤلاء الشباب وأسرهم بأرخص الأثمان وبأحقر أساليب النخاسة السياسية والعسكرية المزدهرة مؤخراً بأيادٍ جنوبية للأسف.

الأخبار الكارثية التي تتوالى هذه الأيام على رؤوس أهالي القتلى والجرحى والمفقودين، لن تكون هي ذروة مأساة شباب الجنوب، طالما بقي الحال على ما هو عليه، يغشاه الصمت الجبان، ويحتويه وضع الاسترزاق المالي والمادي الذي تتكسب منه قيادات جنوبية، كثيرة منها للأسف تزعم أنها ثورية حراكية.
فهناك الآلاف من الشباب يتم استدراجهم بطريقة حقيرة إلى أحد المعسكرات السعودية، بزعم تدريبهم على مكافحة الإرهاب ومن ثم إعادتهم إلى عدن، يتفاجؤون بقرار ترحيلهم للقتال بجبهة ميدي شمال محافظة حجة الشمالية، من خلال وسطاء وسماسرة جنوبيين. سماسرة بدرجات عقداء وعمداء ومشايخ ووزراء. ولمّـا كان الرفض هو قرار هؤلاء الضحايا، تم قمعهم بصورة مهينة موقعين بهم وبأسرهم شتّى صنوف الأذى والضرر الجسدي والمعنوي، قبل أن يتمكن بعضهم من الفرار إلى مناطق بالعمق الشمالي، ما زال مصيرهم مجهولاً حتى الساعة، والبعض منهم تم اقتياده عنوة إلى جبهات قتال متفرقة بطريقة الإرغام والعجرفة، وكثير منهم مازالوا في ذلك المعسكر الجيزاني المروع، دون أن يكترث لمأساتهم أحد، لا من الجنوب وحراكه ومجلسه «الانتقالي»، ولا من «الشرعية» البائسة لهادي.
استغلت السلطات السعودية بجيزان سماسرة قادة اللواء وتجار الحروب والمقابر بالرياض وعدن، وطفقت تسوق هؤلاء الضحايا بقوة الحديد والنار، ومن يقبل أو يرفض فالمصير سيّــان: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعمُ.
وعلى الجهة الأخرى «جبهة الساحل»، فقبل يومين تقريباً كان لكاتب هذه السطور لقاء مع بعض الجنود الجنوبيين والإعلاميين العائدين لتوّهم من جبهات الخوخة ويختل والمخا، تحدثوا بحرقة وألم كبيرين عن صور المعاناة والأهوال التي لازمتهم منذ وصولهم هناك حتى عودتهم إلى عدن -عودة بشق الأنفس- شارحين بمرارة تصرفات بعض القيادات العسكرية وبعض قيادات الجماعات الإسلامية، التي كان وما زال همّها الأول والأخير الظفر بمزيد من الفيد والغنائم «الأنفال»، ولو على جثث أخوانهم ورفاق دربهم، بحسب هؤلاء العائدين.

هذا فضلاً عن أحاديثهم المؤلمة عن الكيفية التي كانوا يجبرون بها على التقدم عبر طرق مشبعة بالألغام، وإلى مواقع بعمق جبهات «الحوثيين»، ليكونوا عبارة عن بالونات اختبار لحجم قوة «الحوثيين» وأماكن تواجدهم، ليجدوا أنفسهم كل مرة في مأزق حقيقي تنهشهم القذائف وتبتلعهم رمال الألغام وتمزّق أجسادهم الهزيلة المتعبة الشِراك والفخاخ والمصائد المزروعة.
خلاصة القول: نحن إزاء مأساة حقيقية لهؤلاء الضحايا، الذين وجودوا أنفسهم يباعون كسلع بشرية بأسواق نخاسة السياسية، وبازارات الارتزاق، وكحطب حرب تخوضها أطراف يمنية بالوكالة، بعيداً عن مماس دائرة القضية الجنوبية، التي هي أحق بهذه الأرواح التي تزهف وبهذه الدماء التي تنزف كل يوم بعيداً عن الحق الجنوبي.
مأساة تحمل أبعاداً كثيرة، سياسية وأخلاقية وإنسانية، ناهيك عن وطنية تجعل من العيب والعار الصمت حيالها ودس الرؤوس في الرمال. وعطفاً على ما تقدّم، نكرر رفع أصواتنا بكل لغات العالم في وجه كل من يسترزق على حساب الدم الجنوبي، وفي وجه كل من يشارك بشكل مباشر أو غير مباشر بصنع هذه المأساة ويمدّها بأسباب البقاء والاتساع، وفي وجه كل من يلوذ إلى مغارة السلبية وكهوف التخاذل، بأن أوقفوا هذه المأساة، وكفى استرزاقاً، وكفى خنوعاً أمام استرخاص أبناء هذا الوطن المنكوب. المنكوب بكم وبأموال أسيادكم من أصحاب الفخامة والسمو والمعالي. فالجنوبي ليس للبيع والاسترزاق يا هؤلاء… والله المستعان.

You might also like