اليمن اليتيم
هل كانت السعودية تخشى من قدوم طائرة أممية شجاعة تتحدى هذا الحصار المتنمّر؟ قد يكون هذا وارداً إذا ما صحّت أنباء رفض الأمم المتحدة شروط «التحالف» غير المنطقية لإعادة حركة المنافذ إلى ما كانت عليه قبل وصول الصاروخ إلى الرياض. رغم الأمل الذي تبعثه احتمالات نجاح الضغط الأممي والدولي على السعودية لفك الحصار، إلاّ أن اليمن لا يحتاج لمزيد من الاحتمالات. إذ لا شيء أسوأ من تزايد نسبة الاحتمالات في ملف اليمن المنسي داخل دهاليز السياسات الدولية؛ الملف الذي بات مفتوحاً على احتمالات أكثر غموضاً في سياق الصراع الدولي، ومستغلقاً على احتمالات الحل. استغلاق يصير عنده اليمن يتيماً في الوسط الدولي أكثر من أي وقت مضى، سيّما مع انفتاح شهية النزعة التدميرية للسعودية نحو لبنان. لبنان الذي رغم كل جراحه، ما زال قادراً على العودة من حافة الهاوية ليمنح الحياة معنى أكثر سمواً من السموّ الملكي.
الأسبوع الماضي اهتمت وسائل الإعلام – العربية والناطقة بالعربية على وجه الخصوص – بتغطية الأزمة السياسية في لبنان على إثر استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري. حسب تغطيات متطابقة ومتقاربة الصيغة لخبر زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرياض، فإن لقاءه بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لم يكن «ودياً». لقد جاء ماكرون إلى الرياض ليقول لابن سلمان بعبارة صريحة إن لبنان مهم بالنسبة لفرنسا، ويجب أن يبقى مستقراً. إضافة لضغوط وحسابات سياسية أخرى، تفيد بعض المؤشرات بأن السعودية يمكن أن تكبح نزعتها التدميرية هذه المرة، لكن هل ستكبح غرورها لفتح المنافذ اليمنية إذا ما قال لها رئيس دولة ثقيلة الوزن: اليمن مهم بالنسبة لنا؟.
ما يؤسف له إلى درجة احتقان القهر في الجينات الوراثية لضحايا الحرب في اليمن، أنه بلد صار النسيان يطويه كل يوم رغم عويل الثكالى وأنين الجياع. لكن النظرة اليمنية لا يجب أن تتجه نحو الخارج فقط. ترى كيف ستكون الصورة إذا ما وجهنا النظر قليلاً نحو الداخل أيضاً وتساءلنا بمونولوج غير مسرحي: ما الذي يمنح البلدان أهميتها سوى ما لديها من قدرة على البقاء والدفاع عن نفسها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً؟
اليمن بلد يتيم إلى درجة أن أبناءه لا يجيدون التعبير عن مظالمهم بما يكفي لاستدرار تعاطف الضمير العالمي. كما أن قادته لا يجيدون التعبير عن مصالحه في سياق العلاقات الدولية، سواء كانت علاقات ودية أو عدائية. بعبارة أخرى، لا يجيد اليمنيون الشكوى بقدر ما يجيدون التحدي، وهي طباع جمعية ربما تكون أقرب إلى ما تسمى بعنجهية الفقراء؛ سيواجهون الجوع والحصار والقصف وينتظرون المساعدات الدولية بصبر لا نفاد له، لكنهم لن يبحثوا عمّا يستطيعون فعله جمعياً – حكومة وشعباً- لتخفيف أثر الحصار المفروض من الخارج أو نتيجة التلاعب بالعملة الوطنية. ونتيجة غياب هذا المستوى من التنسيق الجمعي بين الفعل الحكومي والاستجابة الشعبية، تُباع السلع المستورة، وفي طليعتها الغذاء والدواء، بالأسعار الجديدة التي فرضها ارتفاع الدولار والريال السعودي. المشتقات النفطية هي الأخرى تُباع بأسعار مضاعفة في السوق السوداء، وهكذا تتغوّل الأزمة، ويلعب الهلع من تفاقمها دوراً في تثبيت الأسعار الجديدة وضرب الاقتصاد الوطني في مقتل.
وما دامت الحكومة لا تكثف جهودها في إشراك المواطن في قرارات مواجهة الأزمات، لا يعرف المسكين إذا ما كان عليه أن يثق بأن «حكومة الإنقاذ» سوف تنقذه أم ستعزز مخاوفه من تغوّل السوق السوداء مرة أخرى بذريعة تشديد الحصار. ذلك أن أسعار الغذاء والدواء لم تتوقف، منذ شهر تقريباً، عن القفز عالياً مع كل قفزة لسعر الدولار والريال السعودي؛ أكثر عملتين أجنبيتين متداولتين في الأسواق اليمنية حالياً. لقد وصلت أسعار الغذاء والدواء والمشتقات النفطية، باعتبارها أكثر السلع الأساسية استهلاكاً، إلى مستويات أعلى حتى من قدرة الميسورين على تحملها.
إذا كان اليمن يتيم في الوسط الدولي، فلا يجب أن يكون المواطن يتيماً في الداخل. وفي الوقت الذي تتجرّد فيه الضمائر الإنسانية من قذارة السياسة لتطالب بفك هذا الحصار القاتل، لا يجدر بسلطة صنعاء أن تنتظر شفقة الخارج، كما لا يجدر بسلطة عدن أن تتواطأ مع هذا الحصار الذي لا يكسر سوى كرامة المواطن اليمني. فمعيار الإحترام الداخلي والخارجي لأي دولة يقوم على مراعاتها للمصالح الجمعية لشعبها، وبالمثل، قدرتها على ابتكار حلول للحفاظ على اقتصاد الفرد والدولة. أما اليتامى، فلا يحظون سوى بالشفقة. يا لمرارة الشفقة.