عملية القدس وصفقة القرن
متابعات | كتب | قاسم شعيب
حين استولت الحكومة الصهيونية على مفاتيح القدس سنة 1969، قالت رئيسة الوزراء حينها غولدا مائير إنها لم تنم ليلتها وكانت تنتظر أن ترى الجيوش العربية على أبواب فلسطين، لكن بعد أن مر الأمر دون أية ردة فعل وكأن شيئا لم يكن، قالت “نستطيع أن نفعل أي شيء”.
واليوم تؤكد الأنظمة والحكومات العربية ظن غولدا مائير فيها، وتكشف ردة فعلها ما كانت تخفيه لعقود متتالية. لم يعد هناك محل للخجل بعد أن أصبح حتى مجرد التنديد بما يفعله المحتل الإسرائيلي في القدس بشكل خاص شيئا من الماضي. والاستهجان الفلسطيني لهذا الموقف يكاد يصل إلى حد الغرابة، إذ ماذا يمكن للفلسطينيين أن ينتظروا من هذه الأنظمة؟..
بل إننا نرى اليوم انضمام حركات وأحزاب ظن كثيرون لعقود طويلة أنها كانت صادقة في دفاعها عن قضايا الناس والأمة، ومنها قضية فلسطين والقدس. لقد صمتت، مثلا، حركة النهضة في تونس. ولم نر زعيمها الذي تعوّد إصدار البيانات باسمها في كل مناسبة كتَب بيانا أو قال شيئا عن عملية القدس ثم إغلاق المسجد بعد ذلك. بل إن زعيم الحركة راشد الغنوشي بدأ يدعو إلى منح الفلسطينيين حق المواطنة لأن ذلك كفيل بخلق دولة ديمقراطية يعيش في الفلسطينيون والإسرائيليون جنبا إلى جنب كما نقل عنه رئيس حزب البناء رياض الشعيبي. وهو ما يمثل تنازلا كاملا عن فكرة الدولة الفلسطينية الحرة على أرض فلسطين التاريخية والتي لا حق فيها للصهاينة الأغراب.
لا يجب أن يُبَرَّر ذلك الصمت بانشغال العرب بمشاكلهم الداخلية وحالة الخذلان الواسعة التي تسود واقعهم. بل إن ذلك يجب ربطه بما يتم إعداده لهذه المنطقة فيما أصبح يعرف بصفقة القرن. ليس صحيحا أن الحكومات والأحزاب العربية كلها مشغولة بأوضاعها الداخلية، ذلك إن موقفا سياسيا مما يحدث في القدس لا يكلف شيئا لولا وجود اتفاقات مسبقة تقضي بالتزام الصمت إزاء الخطوات الصهيونية التي لن يكون إغلاق مسجد قبة الصخرة سوى مقدمة لها. زار الرئيس الأمريكي الرياض قبل شهرين وعقد صفقات ضخمة لم تتوقف عند بيع السلاح وعقود الاستثمار، بل تجاوزتها إلى صفقات سياسة بحضور 50 حاكما “عربيا” و”مسلما”، هي الأسوأ والأخطر على المستقبل القريب للمنطقة.
ما رشح عن تلك الاتفاقات والصفقات السياسية يؤكد التوجه الكامل نحو تطبيع سياسي وثقافي واقتصادي علني تقوده المملكة السعودية، والهجوم على الفلسطينيين في غزة والقطاع بمشاركة عربية رسمية لترحيلهم نحو سيناء والأردن ومناطق أخرى تمهيدا لتمدد الكيان الغاصب حسب ما هو مخطط له.
عملية القدس التي نفذها الشهداء جبارين أبناء مدينة أم الفحم داخل فلسطين المحتلة عام 48 جاءت في وقتها لتكون ردا أوليا، ولتؤكد أن القدس لا تزال حية في ضمير كل فلسطيني وعربي ومسلم حر مثل أي بقعة أرض فلسطينية أخرى. لم تتبنّ أية منظمة العملية، غير أنها لا تبدو عملا منفردا قرّره الشبّان الثلاثة انتقاما لممارسات المحتل الظالمة ضد الشعب الفلسطيني. وقد تعكس تنسيقا داخليا وخارجيا بين الكتلة المقاومة التي لا ترى طريقا أخرى لتحرير الأرض غير القوة..
لقد أرادت القوى المهينة في هذا العالم استغلال الاختلافات المذهبية والطائفية والدينية والعرقية لإثارة الفتن والصراعات بين المسلمين والمسيحيين، العرب وغير العرب، السنّة والشيعة.. وحتى بين السنّة في داخلهم كما نرى اليوم ما يحدث بين السعوديين ومن معهم والقطريين وداعميهم.. علينا أن نعترف أنهم نجحوا في ذلك إلى حد كبير، ليس لأنهم أذكياء وأقوياء، ولكن لأن بيننا أغبياء ومرتزقة سهّلوا لهم ذلك ونفّذوا ما طُلب منهم. لقد سبق لوزير الدفاع الصهيوني السابق موشي يعلون أن تحدث عن تغييرات في الاستراتيجية الإسرائيلية تقضي بجعل العرب والمسلمين يتقاتلون فيما بينهم من خلال خلق عصابات قتل وإجرام باسم الدين في إشارة إلى داعش وما شابهها..
ولا يمكن إفشال هذه المخططات الماكرة دون نقل المعركة الى أرض العدو، وتكثيف الضربات ضد الأهداف الاسرائيلية، لأن ذلك هو الأسلوب الكفيل بتوحيد الأمة الممزقة مرة أخرى وراء الهدف الكبير. لقد عمل الغرب والصهاينة الذين يحكمونه على استبدال العدو الرئيسي المشترك للعرب والمسلمين بأعداء وهميين من خلال وكلائهم في المنطقة ومن خلال الماكينة الإعلامية الضخمة التي صوّرت العدو صديق والشقيق عدو.. والانسياق وراء ذلك ليس إلا خدمة لمشاريعهم.
تكمن أهمية عملية القدس في نتائجها. لقد فضحت لأول مرة تجّار القضية، وحدّدت من يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني ومن يعمل ضدّه. وهي لذلك لابد أن تؤسس لاصطفافات جديدة على قاعدة الموقف المبدئي المتعالي على أية نزعات غرائزية طائفية أو إثنية أو سوقية.