الدول الخليجية أمام صيف ملتهب
متابعات
مكوّن جديد يبرز إلى واجهة الأزمة الخليجية ليزيدها سخونة. سخونة سياسية تضاف إلى حرارة الصيف المتصاعدة، وتستدعي السؤال عما إذا كنا سنشهد صيفاً خليجياً قياسياً في معدل الحرارة السياسية.
كلام الرئيس التركي عالي النبرة ومن خارج قاموس الأدبيات الدبلوماسية يستحق التوقف عنده. ما وصفه رجب طيب أردوغان بـ”قلة احترام” تجاه مطالب السعودية والإمارات بإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر ينطوي على موقف بالغ الدلالة. قد لا ينجلي الغبار قريباً عن وطيس الصراع الخليجي. إلا أن مقاربة النزال من زاوية المصالح الكبرى يتيح جلاء الصورة ورؤية أوضح لحقيقة ما يحدث. من هنا فإن قراءة المشهد تستدعي تفكيك مكوّناته.
لقد تدرج موقف تركيا حيال الأزمة. اتخذ في البداية شكل الوساطة وانتهى إلى انحيازه الواضح والعلني لمصلحة قطر. أكد أردوغان وقوفه إلى جانب قطر. اعتبر الشروط السعودية الإماراتية مخالفة للقوانين الدولية. هذا صحيح. إلا أن هذه القوانين خالفتها تركيا مراراً. تمثلت إحدى هذه المخالفات بدخولها إلى بعشيقة من دون موافقة العراق. كما خالفتها بتدخلها العسكري السافر في سوريا. استدعاء حجة القانون الدولي في الأزمة الحالية هو من لوازم اللعبة التي تراقبها الولايات المتحدة جيداً ولا تجد أن هناك ما يضيرها.
يعبّر موقف أردوغان عن نظرة تركية قومية دينية تاريخية. تضع هذه النظرة تركيا ضمن مصاف الإمبراطوريات أو الدول الكبرى ذات النفوذ والامتدادات إلى ما وراء حدودها. هذا ما يجعل الشرط الذي تضمنته لائحة المطالب السعودية الإماراتية مستفزاً لتركيا الأردوغانية بما تحمله من شحنة عثمانية جديدة.
هنا تحديداً مربط الفرس. وهذا بالضبط ما يقلق السعودية والإمارات ومصر. إنها العثمانية الجديدة لأردوغان بطموحاته وأهدافه.
شهدت العلاقات التركية السعودية توترات وتقاربات عدة في ما مضى. ساءت تلك العلاقات خلال فترات من عهد الملك عبدالله. أعاد الملك سلمان تقويمها مدفوعاً بتحديات مشتركة ومصالح متقاطعة. أبرز تلك التحديات توقيع الاتفاق النووي مع إيران وما ينطوي عليه من مفاعيل في توازانات المنطقة.
الأزمة السورية حتمت تنسيقاً استخبارياً ولوجستياً على أعلى المستويات لإسقاط النظام. فشل المشروع في سوريا، والمشهد في العراق بدأ ينجلي عن صورة مختلفة عما كان عليه في الأعوام الماضية. توازنات جديدة آخذة في التبلور عى امتداد المنطقة. تستدعي التطورات الجديدة تسليماً وانسحاباً من بعض الملفات وإدارتها بأدوات مختلفة. في معادلة المنطقة عادت تركيا الإخوانية منافساً وهاجساً للسعودية الوهابية.
في العمق تنظر الرياض إلى السياسة الأردوغانية باعتبارها امتداداً للدولة العثمانية. في العام 1818 وضع العثمانيون حداً للدولة السعودية الأولى. الحملة التي قادها إبراهيم باشا العثماني ما زالت ماثلة في ذاكرة الحكم السعودي. احتل إبراهيم ابن الوالي العثماني محمد علي باشا عاصمة السعوديين الدرعية. أسر حاكمها عبدالله بن سعود قبل إعدامه في الأستانة – اسطنبول حالياً.
قد لا تنظر مصر الحالية بهذا القلق التاريخي إلى الدولة العثمانية. الإشكالية الأبرز لديها هي حركة الإخوان المسلمين. تتقاطع مصر والإمارات في تصنيف الإخوان المسلمين خطراً أساسياً. المشكلة مع تركيا تتجسد في كونها تشكل الحاضن والراعي للحركات والتيارات الإخوانية عموماً.
من هذه الزاوية يمكن فهم الصراع الإماراتي السعودي مع قطر. فالدوحة متحالفة مع تركيا. يتعزز هذا التحالف على ضوء تصريحات أردوغان الأخيرة، وفي ظل ما تعتبره الدوحة حصاراً عليها. لا ننسى أن إمارة آل ثاني تشكل الراعي الأساسي لحركات الإخوان المسلمين بمسمياتها المختلفة في البلاد العربية. رعاية تتخذ أشكالاً مالية وإعلامية وأمنية ولوجستية. لم يعد هذا الأمر مقبولاً لدى السعودية والإمارات ومصر.
في خضم هذه المستجدات، هل مثّل الموقف التركي مفاجئة غير متوقعة للدول الثلاث؟ وهل سيشكّل تحدياً لها ريثما تنتهي مهلة الأيام العشرة للرد القطري وبعد نهايتها؟
لا شكّ أن إرسال تركيا قواتها إلى قطر وفتح قاعدتها العسكرية فيها هو إجراء ميداني بمضمون سياسي. عبر خطوتها تلك، تسعى تركيا إلى رسم خطوط حمراء وتعمل على وضع سقف للتوقعات السعودية-الإماراتية بتجريد قطر من أدواتها ورضوخها لنفوذ جارتيها.
الطلب بإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر أزعج من دون ريب أردوغان. للمفارقة لم تكن القاعدة موجودة عند بداية الأزمة وما رافقها من حديث عن لائحة شروط وُضعت لقطر. سيشكل هذا الأمر عنصر توتر محتملاً جداً بين أنقرة والعواصم الخليجية المعنية بالنزاع، ناهيك عن القاهرة.
سيضاف هذا المأزق إلى لائحة من التحديات التي تواجه السعودية، تحديداً، في أكثر من ملف. فالقاعدة التركية في الدوحة لم تأتِ من خارج سياق الرغبات الأميركية. يُستبعد أن تقدم تركيا على هذه الخطوة من دون موافقة أميركا، إن لم يكن بقرارها أصلاً. يستحيل على القيادة القطرية السماح لأي قوة عسكرية بالتمركز على أرضها من دون ضوء أخضر من البنتاغون. هنا تجب الإشارة إلى قاعدتي العديد والسيلية الأميركيتين في قطر.
قاعدة العديد ليست مجرد منشأة عسكرية تضاف إلى قائمة الموانئ والقواعد الأميركية المنتشرة في الخليج . هي تُشكّل مركز القيادة المركزية الأميركية في المنطقة العربية والآسيوية. يشمل نطاق عملها الشرق الأوسط وصولاً إلى شرق آسيا حتى أفغانستان وباكستان وتخوم الصين. هي أيضاً ثاني أكبر قاعدة تخزين سلاح أميركي في العالم بقيمة 36 مليار دولار. مركز التخزين الأول يقع في ولاية بنسلفانيا الأميركية وتقدّر قيمة ما يحتويه من سلاح وذخيرة بنحو 40 مليار دولار. لذا لا تغامر الدوحة في السماح لأي جندي، سواء أكان تركياً أو غير تركي، بالعبور على أراضيها خلافاً لرغبات وزراة الدفاع الأميركية.
يأتي الوجود التركي في قطر إذاً بطلب قطري رسمي، ولكن الأهم بموافقة أميركية. تُشكّل القاعدة التركية العسكرية من وجهة نظر أميركية قاعدة أطلسية أخرى في المنطقة الخليجية تضاف إلى قواعدها. بإمكان واشنطن استخدامها بأي شكل من الأشكال ضمن استراتيجيتها وخدمة مصالحها عند الحاجة. جانب من هذه الحاجات يتعلق بصراع الطاقة عموماً والغاز خصوصاً. ليس فقط بسبب منابع الغاز القطرية – الإيرانية المشتركة في مياه الخليج الفارسي، ولكن أيضاً ضمن استراتيجية أميركا تسعى إلى تطويق الصين أو أقله التحكم في مصادر الطاقة العالمية، مع ما يُشكّله هذا الأمر من عنصر ضغط قوي على بكين.
من المفيد التذكير على هذا الصعيد بالاستراتيجية الأميركية التي وضعت منذ العام 2012. يتم التعبير عن هذه الاستراتيجية بالاستدارة أو التحوّل الأميركي الذي بدأ منذ عهد أوباما. استدارة تتخذ شكل الانسحاب التدريجي من المنطقة من دون إهمالها، والتركيز على منطقة بحر الصين الجنوبي والأخطار الآتية من العملاق الصيني. هذا التركيز يحتاج حكماً إلى موازنات مالية واستراتيجيات عسكرية.
هذه هي أبرز مكوّنات المشهد في الصراع المفتوح على التصعيد في الخليج (الفارسي) الملتهب. القلق السعودي الوجودي والأساسي مصدره تركيا أكثر من إيران. قلق يختصر المنافسة على الدور والتأثير والحجم في العالم السنّي بالمنطقة. امتداد العثمانية الأردوغانية إلى حدود السعودية عبر قطر يمثّل أكثر من هاجس للرياض. فما بالك وهي منخرطة أصلاً في صراع نفوذ إقليمي كبير مع إيران.
الأعوام الماضية شهدت صراعات محتدمة بين البلدين، الرياض وطهران، في سوريا والعراق واليمن ولبنان. ما زال هذا الصراع مستمراً ومتصاعداً وحاداً. لم تحقق الاستراتيجية السعودية أي انتصار أو مكسب حتى الآن. العكس هو الصحيح. حصدت انتكاسات وتراجعات جدية. لكنه رغم ذلك، يبقى صراعاً استراتيجياً على النفوذ ولم يتحول إلى صراع وجودي، حتى الساعة على الأقل.
أما إصرار السعودية على العنوان الإيراني في نزاعها مع قطر فيبدو أنه لشد العصب المذهبي السنّي الذي تحتاجه الرياض وتعوّل عليه كثيراً أمام الرأي العام العربي والمسلم. هدفها من وراء ذلك التغطية على جوهر الصراع في المنطقة. صراع سياسي استراتيجي في العمق ولا علاقة له بأي بُعد مذهبي.
* علي فواز/ الميادين نت