قصرُ غمدان… “الكدم” يطمر التأريخ!
ويُعدّ قصر غمدان أحد أبرز المعالم التاريخية اليمنية المذكورة في كتب التاريخ، ونُسجت حول شموخه الكثير من الأساطير والروايات، واختلفت حول بانيه. بعضها يؤكد أن سام بن نوح الذي سميت صنعاء باسمه قديماً هو من بناه وشيده، وأخرى تقول إن بانيه هو سبأ بن يشجب، ورواية ثالثة تفيد بأن الملك الحميري، الشرح يحضب، هو من بناه في القرن الأول الميلادي مستخدماً البوفير والغرانيت والمرمر.
ولم يعد القصر العتيق الذي يحمل طابعاً هندسياً فريداً مقراً لملوك حمير وسبأ، بل باتت غرف الحكام وصالات حاشية الملوك مقرات لمخابز ومعاجن الكدم، والجزء الآخر من القصر الضاربة جذوره في عمق التاريخ يقيم فيه المئات من سجناء السجن الحربي التابع لوزارة الدفاع اليمنية.
وكان القصر الذي استخدمه العثمانيون إبان حكمهم لليمن مقراً لهم، تحول على يد الإمام يحيى حميد الدين، ومن بعده ابنه أحمد، خلال الفترة 1925 ـ 1962، إلى قصر للسلاح نظراً لمتانه بنائه وتحصيناته الخارجية المبنية من الحجر الصم، إلا أن ثوار 26 سبتمبر 1962 الذين اقتحموا قصر السلاح آنذاك ليطيحوا بحكم الإمامة في شمال اليمن، وأعلنوا قيام الجمهورية، حولوا قصر غمدان من قصر للسلاح إلى قصر للكدم وسجن للعسكريين.
ومع تنامي أهمية الآثار والمعالم التاريخية سياحياً خلال العقدين الماضيين، تصاعدت المطالب الشعبية بتحويل القصر إلى مدينة سياحية مفتوحة، إلا أن تلك المطالب اصطدمت بتمسك وزارة الدفاع بالقصر وعدم التعاطي مع مطالب وزارتي السياحة والثقافة.
وفي ظل توقف مطالب تحرير أقدم قصور صنعاء التاريخية منذ بدء الحرب في اليمن العام الماضي، تعرض قصر غمدان في الـ 12 من مايو 2015 للاستهداف من قبل طيران “التحالف العربي” بسلسلة غارات تسببت في إحداث أضرار فادحة بالمبنى الأثري، وفي عدد من منازل مدينة صنعاء التاريخية المجاورة للقصر.
قصر غمدان من الداخل
يمثل قصر غمدان معلماً تاريخياً هاماً، ويُعدّ أشبه بمدينة متكاملة بمساحته وعدد غرفه وأجنحته وقلاعه وأسواره الشامخة. فالقصر تم بناؤه بأسلوب هندسي فريد من الداخل والخارج، فقد احتوى على سراديب تحت الأرض وغرف مزينة بالنقوش ومجار لسواقي المياه، وأحيط بقلاع ضخمة ضمن تركيبة بناء السور الذي يحيط بالقصر، فضلاً عن قلاع أخرى هي أشبه بغرف معلقة كانت خاصة بكبار القيادات العسكرية الخاصة بحراسة القصر، وبوابة رئيسة صممت بطريقة تتيح للمسؤولين مراقبة الداخلين والخارجين والتواجد الدائم لمواجهة أي اقتحام للبوابة، من خلال العقد الطويل والواسع المساحة الذي اتسع للعديد من الغرف التي يرتاح فيها الحراس أو جند البوابة. هذه الأخيرة أشبه ما تكون بنفق حين تلجها تسير تحت عقد طويل، فوق جسره المتين تستقر غرف وأجنحة متعددة، إضافة إلى ممر داخلي يؤدي إلى مسجد البكيرية الذي قيل إنه بني من قبل العثمانيين الذين قاموا كذلك ببناء هذا الممر من داخل القصر إلى المسجد، كمعبر خاص للوالي أو الحاكم الذي كان يستقر في القصر، إضافة إلى أرض شاسعة كانت ملحقة بالقصر من الجهة الخلفية، وهي خاصة بمرابض الخيول والقوافل القادمة إلى اليمن.
ويحتوي القصر على عدة قصور، إذ يوجد في الداخل قصر منفرد كان خاصاً بالوالي، وجناح منفرد آخر خاص بكبار الضيوف والخدم والحشم التابعين لذلك الجناح، إضافة إلى جناح خاص بسكن أفراد المواكب التابعة للوالي والضيوف من الحراسات وحاملي الرايات وغيرهم، وجناح خاص بإعداد الطعام وآخر بالقوات العسكرية المكلفة بتنفيذ مهام القصر الأمنية والعسكرية وتسيير شؤون الحاكم، فضلاً عن مخازن خاصة بالذهب والفضة (الخزينة العامة للدولة). أما قلاعه فهي مميزة، إذ إنها ذات مساحات واسعة، وتقع أهم تلك القلاع في الجهة الخلفية التي يسير سورها باتجاه مرتفع نحو باب البلقة، أحد أبواب صنعاء السبعة، ثم نحو حي مسيك، قبل أن يمر فوق ربوة. وتقع بوابة القصر مباشرة أمام باب البلقة الذي يؤدي إلى عمق باطن مدينة صنعاء.
صدر أكثر من توجيه رئاسي بتحويل القصر إلى منشأة سياحية، إلا أن كل التوجيهات لم تر النور. في العام 2005، أعلنت وزارة الثقافة والسياحة إعداد دراسات أولية للبدء في تنفيذ مشروع ترميم قصر غمدان التاريخي، بهدف تأهيل القصر التاريخي سياحياً بناء على توجيهات رئاسية. وأوضحت الوزارة أن إعادة الترميم تستهدف السور الخارجي للقصر وبهاءاته المختلفة وأروقته وغرفة المتعددة وذلك وفق النمط المعماري القديم والتصميم السابق له، إلا أن المشروع توقف. وفي أبريل من العام 2013، أعلن امين العاصمة الراحل، عبد القادر هلال، أن المجلس المحلي لأمانة العاصمة سيعقد اجتماعاً استثنائياً يقف فيه أمام عدد من مشكلات قصر غمدان، واعداً بالعمل على استعادة مكانة القصر التاريخية، إلا أن تلك الوعود لم تترجم إلى واقع ملموس.
* الكدم نوع من الخبز يُستهلك على نطاق واسع في صنعاء، ويقال إنه من إرث الأتراك. يُصنع من كل أنواع الحبوب مجتمعة، ويعتمده العسكريون اليمنيون بكثرة.