في رحاب غدير خم
عبدالغني العزي
حادثةُ غدير خم حدَثٌ تأريخيٌّ هامٌّ معلومٌ للجميع المخالف والموالف ومتفّقٌ الرواة والمؤرخون على تأريخ حدوثه ومكان إقامته وعلى ما حدث فيه من ترتيبات ومتفقين أَيْضاً على ما صدر في هذا اليوم من رسول الله من قول في الإمام علي عليه السلام ولا يوجد تشكيك أبداً حول ذلك، حتى صار في الأَوْسَاط الإسْلَامية والتأريخية شيئاً مُسَلَّماً به..
وطالما والأمة الإسْلَامية متفقة أن النبي صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله لا ينطق عن الهوى فإن ما صدر منه في يوم الغدير إنما هو من ضمن اداء الامانة وتبليغ الرسالة لا سيما أنه صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله كان حريصاً على تبليغ ما أراده الله تَعَالَى ليصل إلَى كُلّ الأُمَّـة بما فيهم الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم..
وفي ظهيرة هذا اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة واثناء عودة الحجيج من أداء مناسك الحج بصحبة رسول الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم والتي اصطلح على تسميتها بحجة الوداع والتي ما تلاها إلَّا ارتقاءه النبي الاعظم إلَى الرفيق الأعلى..
وبعد أن بلغ النبي الأكرم ما أمره الله به في هذا اليوم بقوله المشهور عند الجميع: ألست أولى بكم من أنفسكم. قالوا بلى.. قال فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه.. وقد تلا قوله صلوات ربي عليه واله دعاء سمعته جموع الحجيج ورواة الحديث وكتبه التأريخ حتى وصل إلينا، حيث قال اللهم والِ من والاه وعاد من عاده وانصر من نصرة واخذل من خذله.
حينها توجه الناس إلَى الإمَام عليّ لتهنئته بهذا الوسام والتكريم الرباني المحمدي في هذا اليوم المشهود بما فيهم الصحابة الكرام حتى روى أن الخليفة عمر بن الخطاب كان أحد المهنئين للإمام علي بقوله: بخ بخ لك يا بن أبي طالب أَصْبَـحت مولاي ومولى كُلّ مؤمن ومؤمنة.. ومن خلال التهاني التي تلقاها الإمَام عليّ عقب انتهاء رسول الله من خطبته تتبين الدلالة الواضحة على فهم الجميع لما صدر من رسول الله في هذا اليوم في حق الإمَام عليّ بما فيهم الصحابة الكرام..
ومع أَهميَّـة هذه الحادثة في حياة الأُمَّـة الإسْلَامية إلَّا أن الاهواء وَسياسات القوى الشيطانية كانت مؤثرةً جداً في تضليل الأُمَّـة عن مراد رسول الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم في هذا اليوم من خلال اصدار مفاهيم مغايرة لمفهوم ما اراد رسولُ الله بعد أن وقفت هذه القوى عاجزةً عن انكار الحادثة من الأصل أَوْ حذف أَوْ زيادة لما قيل فيها من رسول الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم في حق الإمَام عليّ عليه السلام..
ومن ذلك التأريخ استمرت الجهود الكبيرة تبذل في اتجاه غرس المفاهيم المضادة لمراد رسول الله في هذا اليوم الذي هو بلا شك مراد الله تَعَالَى نتيجة حب التسلط والمال والجاه الذين أشفق التيار المضاد على ضياعه من بين ايديهم وهم كما يظنون الأوْلى والأحق حتى ولو كان في ذلك ما يخالف إرَادَة الله ورسوله..
ومع مرور الأَيَّـام ظلت الجهود تُبذَل لتغييب حادثة الغدير عن الثقافة العامة للامة حينا وتغيير مفاهيم ما اراد رسول الله فيها احياناً كثيرة حتى أَصْبَـحت الحادثة وكأنها خصوصية لتيار إسْلَامى محدد يطلق عليه شيعة الإمَام عليّ عليه السلام في مقابل مفاهيم مغايرة يتم التمترس خلفها من قبل تيار يطلق عليه اهل السنة بغض النظر عن مدى صحة ما يذهب اليه كلا الفريقين..
ومع أن الجميع متفقون أن ما صح صدوره من رسول الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم قولاً وفعلاً وَتقريراً ليس هناك مجال لتشيعه ولا لتسننه بقدر ما هو تشريع لكل الأُمَّـة وملزم لها العمل به بعيداً عن ما طرأ على واقعها من تأثيرات سياسية أَوْ عرقية..
ومع تأكيدي أن مصطلحات شيعة وسنة ما هي إلَّا مصطلحات حديثة تم توظيفها من قبل الساسة ودعاة السلطة والجاه لخدمة أَهْدَافهم ومشاريعهم السياسية وان لا صلة له بما جاء به رسول الله وما ارتضاه الله للناس من دين وما انزل اليهم من تبيان..
وللعلم أن الحديثَ عن حادثة الغدير وغيرها من الحوادث التأريخية لا يعني أنني أحمّل خصومَه مع الصحابة الأوائل والتابعين بقدر ما أري أنها حادثة تأريخية حملت في طياتها اسْتمرَارية المشروع النبوي المحمدي من خلال الإمَام عليّ بن أبي طالب، ولو أن هذه الحادثة أَوْ غيرها مجّدت وأشادت بأحد الصحابة غير الإمَام عليّ فإني لم ولن أتردد في الحديث عنها والإشادة بها والإيْمَان والتصديق بما قيل فيها عن رسول الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم كونَ ذلك ديناً لا مجال للمساومة فيه..
وعندما نتمعن في الحادثة وتأريخها وما سبقها وما تلاها من نزول الآيات القرآنية المبينة لأَهميَّـة هذه الحادثة وضرورة تبليغها عن رسول الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وما قيل فيها فإن من الواجب التفاعل معها والإيْمَان بها بعيداً عن الأهواء والأَهْدَاف غير السليمة حولها وحول مفهومها ومقاصدها والغاية في حياة الأُمَّـة منها؛ كون التقليل من أَهميَّـة هذه الحادثة يعد تقليلاً عن كُلّ ما صدر من رسول الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم..
وبما أن هذه الحادثة ذات أَهميَّـة الكبيرة في تأريخ الأُمَّـة الإسْلَامية فَإن من المعقول التساؤل والبحث عن محور هذه الحادثة الذي هو الإمَام عليّ عليه السلام ومدى استحقاقه لما صدر عن رسول الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم وهل ما صدر فيه عن رسول الله له علاقة بزواجه من الزهراء أَوْ قربه من رسول الله إما أن ذلك أمر إلهي لرسول أمر بتبليغه واتمام رسالة الإسْلَام به بعيداً عن التأثيرات التي حاشا رسول الله أن يقع فيها وهو القائل: والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. وهي من هي بالنسبة له إلَّا أن قوله هذا ينفي ما قد يتبادر إلَى أذهان البسطاء من الناس حول ما صدر منه صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسلم في حق الإمَام عليّ في حادثة الغدير..
إن من الانصاف لمحمد صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله من كُلّ أفْـرَاد الأمة الإسْلَامية الذين يعتقدون أنهم من أتباع دينه أن يسيروا في الطريق التي رسمها لهم نبيهم سوى فيما رسمَه في حادثة خم أم في غيرها بتجرد عن الأهواء والشعارات الغوغائية وأن من حق نبيهم عليهم أن لا يسيروا في الطريق المضاد لمقاصده تبعاً لنزعات شيطانية واهواء استكبارية تؤدي بهم إلَى خسارة نعيم الدنيا والآخرة.