كل ما يجري من حولك

العدو متمسّك بـ«المنع الاستباقي»: تحوّلات ما بعد 7 أكتوبر

29

متابعات..| تقرير*

استأنفت إسرائيل حربها على قطاع غزة، عبر «ضربة افتتاحية» أريد لها أن تكون صادمة ومكلفة للفلسطينيين، وهي أدّت بالفعل إلى استشهاد المئات منهم، ومن بينهم عدد من المسؤولين السياسيين في حركة «حماس» مع عائلاتهم. وإذ تلوح في الأفق تهديدات بإمكان توسيع العمليات العسكرية، ومن بينها البرية، لتحقيق أهداف الحرب التي عجزت إسرائيل عن تحقيقها طوال 15 شهراً، إلا أن صعوبة، وربما أيضاً تعذّر تحقيق أهداف كتلك، أمر لا يتغيّر مع الوقت، وإن كان الدعم الأميركي شبه مطلق، انطلاقاً من اعتقاد الولايات المتحدة بأن هذه الحرب هي حربها، التي تريد لها أن تكون «درساً» لخصومها في الإقليم والعالم.

وأياً يكن مصير هذه الجولة، فإن ربطها الآن، كما حدث في الأشهر الماضية، بالدوافع الشخصية لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، وسعيه الحثيث للبقاء في السلطة، يبدو تبسيطاً مفرطاً لمسألة معقّدة ذات أبعاد استراتيجية عميقة، إذ على الرغم من أن نتنياهو يسعى لتعزيز موقعه السياسي عبر استغلال السياق الأمني، خصوصاً في ظلّ احتجاجات داخلية متزايدة وأزمات سياسية متفاقمة تتعلّق بإقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، رونين بار، وغيره من المسؤولين؛ وعلى الرغم كذلك من محاولات رئيس الحكومة إعادة بناء تحالفه واسترضاء الأحزاب المتطرفة – وعلى رأسها «قوة يهودية» بقيادة الوزير السابق، إيتمار بن غفير -، فضلاً عن معالجة تهديدات تصدر عن الأحزاب الدينية «الحريدية» بإمكان منع إقرار الميزانية وبالتالي إسقاط الحكومة، إلا أن تلك العوامل لا يمكن النظر إليها كأسباب منعزلة أو وحيدة وراء قرار استئناف الحرب.

ما يقف فعلياً خلف هذا القرار، هو تحوّل استراتيجي عميق طرأ على السياسة الإسرائيلية منذ عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2023، والتي شكّلت صدمة غير مسبوقة للدولة العبرية، وأدّت إلى ما تصفه المؤسستان الأمنية والسياسية في إسرائيل بـ»الكارثة الوطنية». صدمة كهذه لم تكن تعبيراً عن مجرّد هزيمة أو فشل عسكري وأمني واستخباري، بل بدت انعكاساً لفشل السياسات السابقة التي اعتمدت على مبدأ الردع والاحتواء، وهي الاستراتيجية المرفوضة من قبل كل مَن في إسرائيل اليوم، على خلفية تأكيد الميدان والواقع قصورها عن التعامل مع التهديدات المتنامية في البيئة الإقليمية.

صدمة 7 أكتوبر لم تكن تعبيراً عن مجرّد فشل عسكري وأمني واستخباري بل انعكاسٌ لفشل مبدأ الردع والاحتواء

في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، تغيّرت الأولويات الإسرائيلية بشكل جذري؛ إذ لم تعد إسرائيل قادرة على التعايش مع وجود حركة «حماس» أو أي فصيل مقاوم في قطاع غزة، بما يشمل وجودها السياسي أو البنية التنظيمية والعسكرية، أو حتى قدرتها على التعافي وإعادة البناء بعد كل جولة تصعيد. لا بل ثمة إرادة واضحة لدى المؤسستين الأمنية والسياسية في إسرائيل لإنهاء هذا التهديد «إلى الأبد»، عبر اتّباع استراتيجية تقوم على العمل الاستباقي، بدلاً من سياسات الردع التقليدية. وعليه، تسعى إسرائيل الآن إلى التغيير الشامل، والمتمثل بإعادة تعريف العلاقة مع قطاع غزة، بما يضمن إنهاء أي قدرة للمقاومة على تنظيم صفوفها أو تطوير قدراتها العسكرية.

ويعني ذلك أن الحديث اليوم ليس عن ضربة عسكرية مؤقتة فقط، بل عن محاولة لإعادة تشكيل الواقع على الأرض، بما يخدم رؤية استراتيجية طويلة الأمد. على أن المفارقة أن هناك إدراكاً متزايداً – وإن مع إنكار في الوقت نفسه -، لحقيقة أن هذا الطموح يصطدم بتحديات كبيرة وعقبات، ويمكن أن يفضي إلى مستنقع طويل الأمد من العنف وعدم الاستقرار والتكلفة.

وفي معادلة كهذه، تبرز الساحة الداخلية الإسرائيلية وتجاذباتها والتنافس السياسي فيها، كعامل حاسم يؤثّر على القرار، لكن ليس منطلقاً وحيداً له. ذلك أن الضغط الشعبي والسياسي والمزايدات، واختلاف المعايير والأهداف بين الأطياف والأيديولوجيات، كلها أمور تضغط على نتنياهو لتقديم إجابات حاسمة، قد لا يكون في وسعه تأمين أيّ من مستلزماتها حالياً، ما يدفعه إلى المراوحة ومحاولة تجنّب الاستحقاقات والتركيز أكثر على المزيد من القوة، على رغم فشل الخيارات المستندة إلى القوة نفسها. وفي الوقت عينه، يتداخل كل ذلك مع مصالحه الشخصية للبقاء في السلطة، ما يجعل استئناف الحرب ليس مجرد خيار استراتيجي فحسب، بل أيضاً ورقة سياسية تُستخدم لمعالجة الأزمات الداخلية وتهدئة المعارضة المتزايدة، والمزايدات من داخل ائتلافه وحكومته.

وعلى هذه الخلفية، لا تكون البيانات الصادرة عن مكتب نتنياهو، أو عن الناطق العسكري للجيش الإسرائيلي، مبالغاً فيها، وتحديداً ما يقال عن السعي عبر استئناف القتال لتحقيق أهداف الحرب. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن الإنكار، كما ورد في صحيفة «هآرتس»، أن تجديد التصعيد هو «عملية لسلامة نتنياهو»، في إشارة إلى الدوافع الشخصية لرأس الهرم السياسي في إسرائيل.

وبهذا المعنى، فإن الحرب على غزة ليست مجرّد مواجهة عسكرية، بل هي جزء من عملية إعادة تعريف شاملة للاستراتيجيات الأمنية في إسرائيل، والتي شهدت تحوّلاً واسعاً في أسلوب مواجهة التهديدات الإقليمية وأهدافها. لكن في الوقت نفسه، فإن حرباً كالتي تدور رحاها اليوم هي انعكاس مباشر للصراعات الداخلية في تل أبيب بين مختلف مركّبات القوس السياسي، والتنافس على السلطة والعمل على تحقيق المصالح الشخصية الضيقة، أو إنفاذ الأيديولوجيات المتناقضة.

You might also like