«دولة إدلب» تتغوّل: اكتمال وصفة الحرب الأهلية
متابعات..| تقرير*
لا يجب أن يكون مفاجئاً لأي مراقب للأحداث في سوريا أن يحصل انفجار للأوضاع في منطقة الساحل حيث تقطن غالبية من الطائفة العلوية. تلك المناطق كانت قد استُثنيت من مشاريع «المصالحة»، أو الوصف الذي يمكن أن يُطلق على مفاوضات النظام الجديد مع فصائل عسكرية وقوى سياسية وجماعات لها شكلها الطائفي أيضاً، كما هي حال الدروز في السويداء والأكراد في الشمال الشرقي.
واضح أن الحكم الجديد، تعامل مع الساحل وأبنائه على أنهم يتحمّلون المسؤولية عن كل ما قام به النظام السابق. علماً أن هروب بشار الأسد وترك «جماعته» لمصيرها، كان يجب أن يكون دليل براءتها من الجرائم التي ارتكبت بحق سائر السوريين، بمن فيهم العلويون الذين تعرّضوا للتنكيل من قبل النظام السابق. كذلك، لم يظهر أن حكومة «هيئة تحرير الشام» اهتمت لرسائل التعاون التي صدرت عن الوجهاء من رجال الدين وشخصيات هذه المنطقة، والذين طالبوا الإدارة الجديدة، بإعداد ونشر لوائح بأسماء المطلوبين، حتى لا يظل الاتهام يوجه الى جميع العلويين.
تفسير سلوك حكام سوريا الجدد ذاك، يحتاج إلى فهم بنية المجتمع السوري الذي يمكن تقسيمه إلى قسمين: الأول هو سكان المدن الكبرى، والذين كانوا الأقل تضرّراً من التهميش الطائفي في عهد النظام السابق، بل كان عدد كبير منهم جزءاً من تركيبة النظام، ومستفيداً من منافعه؛ والثاني هو سكان الأرياف، ولا سيما في الشمال، والذين عانوا من الفقر والتهميش طوال أكثر من نصف قرن من حكم آل الأسد، وكانوا ينظرون إلى العلويين باعتبارهم جماعة محظية لدى النظام، ولا سيما لجهة وجود قسم كبير منهم في الجيش والأجهزة الأمنية.
وعندما بدأت الأزمة عام 2011، انضم سكان الريف من غير العلويين إلى التشكيلات المسلّحة، ومنها الإسلامية المتطرّفة، ما رفع من منسوب الرغبة في الانتقام، وهو ما ظهر خلال الحرب نفسها، كما لمسه الناس بعد سقوط النظام أيضاً. وصارت الأحداث تتوالى في مناطق حمص والساحل السوري، حتى وصل الأمر إلى حدود مبادرة قيادات مدنية ودينية وعسكرية علوية إلى البحث عن وصفة تمرّد عسكري لمواجهة ما يرون أنها عملية إبادة منظمة بحقهم.
«سردية الفلول» هدفها شدّ عصب «ثورة» شاخت باكراً
قد يكون آخر ما يحتاج إليه الرئيس الانتقالي لسوريا، أحمد الشرع، هو معركة من هذا النوع في توقيت يبدو أنه نجح فيه في تسويق نظامه بالوجه المعدّل، عربياً وعالمياً، وإن من دون أن يُترجَم ذلك حتى الآن إلى مساعدات جوهرية تعينه على تحمّل أعباء بناء سوريا المستقبل، خاصة أنه لا يزال يواجه تحديات كبرى في مدّ سيطرته على عموم الأراضي السورية. ولكن ما شهدته سوريا خلال اليومين الماضيين، وما رافقه من دعوات إلى النفير العام على خلفية طائفية ومذهبية، أعاد السلطات السورية الجديدة، إلى مربع الجهة التي تقود انقلاباً ولا تعرف ما هي خطوتها التالية، وهو ما عزّز الاسئلة حول أي دولة تريد، وهل أن «مجموعات إدلب» تريد تعميم نموذجها أم تريد إقامة دولة شاملة لكل السوريين؟
لكن ازدواجية المعايير بدت واضحة في طريقة تعامل الإدارة الجديدة، مع الاحتجاجات بوجهها. فهي ظهرت شديدة التسامح في مناطق مثل السويداء ودرعا جنوباً، وفي الجزيرة السورية شرقاً، لكنها تصرّفت بكثير من الشدة في مناطق حمص والساحل. وصار أي تحرك احتجاجي يحصل في هذه المناطق، يتم اعتباره فوراً بأنه من صنع فلول النظام السابق، وهو اتهام يسبق عملية تنكيل واسعة، وتعزّز بعد تشكيل «المجلس العسكري لتحرير سوريا» بقيادة غياث دلا.
ما يجري الآن يعرّي الإدارة في عيون السوريين، بما في ذلك جزء من السنّة الذين لا يريدون دولة على نموذج إدلب، ولا سيما تشكيلات درعا التي تتكوّن في معظمها من مجالس عسكرية من ضباط النظام السابق. وحتى إذا تمكّنت هذه السلطة من سحق المجموعات المتمردة في الساحل، فإنها لن تكون قادرة على الاستمرار في المناورة في المناطق الأخرى التي ستتمسّك قواها أكثر برفض الانضواء تحت سلطتها، مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة.
واللافت للانتباه، أن هناك مواكبة خارجية كبيرة لما يجري في الساحل السوري، وثمة تحركات ومواقف تشير إلى أن ما يحصل كان متوقّعاً، وأن ثمة رهانات مخفية، أظهر جانباً منها بيان وزارة الخارجية السعودية، الذي أدان «الجرائم التي تقوم بها مجموعات خارجة على القانون»، وأعلن الوقوف إلى جانب الإدارة في ما تقوم به، وجانباً آخر التغطية الإعلامية، ولا سيما عبر قناة «الجزيرة» التي تبنّت بالكامل «سردية الفلول»، وزادت عليها اتهامات لكل من «قسد» وإيران و»حزب الله»، بدعم تحرّكات الساحل، ما دفع المناوئين إلى القول، وفق المنطق نفسه، إن قطر وتركيا تدعمان الإدارة السورية، لا في الحملة على الساحل فحسب، وإنما في تطبيق نموذج إدلب على كامل أراضي الدولة.
كل ما تقدّم يفيد بأن الشرع يؤدي الدور المطلوب منه خارجياً بأمانة تامة، لكنه يواجه مشكلة متعاظمة داخلياً، حيث لا يمكن لأي مكوّن سوري آخر، بالإضافة إلى جزء وازن من سُنّة المدن والجنوب، القبول بالعيش تحت مظلة «نموذج إدلب»، مهما كان الدعم الخارجي لهذا الأخير كبيراً.