شمال غزة متروكٌ لمصيره: تحدّياتٌ بالجملة تواجه العائدين
متابعات..| تقرير*
بين أطلال المنازل، يحاول سكان قطاع غزة البحث عن أدنى شعور بالاستقرار. وبعدما تحوّلت بيوتهم المدمرة إلى ملجأ مؤقت يقيهم التشرد، وجدوا أنفسهم، أخيراً، في مواجهة معركة جديدة، عنوانها توفير أدنى الاحتياجات الضرورية، من مثل المياه ومواد البناء والمراحيض. ووسط مشاهد الدمار الهائل التي خلّفتها حرب الإبادة الإسرائيلية، يحاول الأهالي التشبث بما تبقّى من منازلهم، في ظل انعدام البدائل وعدم إيفاء المؤسسات الدولية بتعهداتها في توفير المأوى. ومع نقص الخيام، باتت إزالة الركام وإعادة تأهيل الأجزاء المتبقية من البيوت الخيار الوحيد أمام العائلات، فيما تشير بعض التقديرات إلى أن كلفة إعادة الإعمار قد تصل إلى حوالي 80 مليار دولار أميركي.
وفي حي الزيتون جنوب مدينة غزة، تقف أم رامي أبو عاصي (50 عاماً) فوق أنقاض منزلها، وهي تحمل مجرفة صغيرة وتحاول، بمساعدة أبنائها، إزالة الركام عند مدخل البيت. ويقول رامي (22 عاماً)، الابن الأكبر للعائلة، لـ»الأخبار»: «منذ أسابيع ونحن نحاول تنظيف ما تبقّى من المنزل بأيدينا. نزيل الحجارة ونكنس الغبار ونبحث عن أي شيء يمكن إصلاحه. لم يعد أمامنا خيار آخر، فلا توجد خيام، ولا مساعدات لإعادة الإعمار، والمؤسسات الدولية لم تفِ بوعودها بإيواء المتضررين». ويضيف أنهم لجأوا إلى استخدام شوادر النايلون والجدران المهدّمة لسد الفتحات في المنزل، فيما غطوا السقف بأقمشة سميكة لتحميهم من المطر والبرد. أما المياه، فيضطرون إلى جلبها من نقاط توزيع بعيدة، بينما يبقى الخطر الأكبر هو انعدام الحمامات في المنزل، ما يدفعهم إلى استخدام مرافق متهالكة أو البحث عن حلول بدائية غير آمنة.
كذلك، يواجه السكان أزمة حادّة في الحصول على مواد البناء؛ إذ إن الإسمنت مفقود في الأسواق، وحتى في حال توفره، فإن أسعاره تفوق قدرة العائلات على شرائه. وفي هذا السياق، يقول رامي: «ذهبت إلى أحد التجار لشراء كيس إسمنت، فطلب ألف شيكل، وهو مبلغ لا يمكننا تأمينه. حتى الخشب والحديد باتا نادريْن، والأسعار مرتفعة جداً، ما يجعل إصلاح منازلنا شبه مستحيل»، مشيراً إلى أن نقص الأبواب والشبابيك يشكّل معضلة أخرى، لأنه يترك المنازل مكشوفة أمام البرد والحشرات.
عصب الحياة
على أنّ المشكلة الكبرى التي يواجهها الغزيون حالياً تتمثل، على الأرجح، بشح مياه الشرب والتنظيف. في خيمة صغيرة عند أطراف حي الشجاعية، تحاول عائلة محمود أبو سالم (45 عاماً) التعايش مع انعدام المياه اللازمة للحياة اليومية. فبعد عودة أفرادها إلى الشمال، وجد هؤلاء أنفسهم بلا مصدر للمياه سوى ما يحصلون عليه، بشق الأنفس، من نقاط توزيع بعيدة. ويقول أبو سالم لـ»الأخبار»، وهو يحمل دلواً نصف ممتلئ بالماء: «هذا كل ما تمكنت من جمعه اليوم. زوجتي تحاول تقسيمه بين غسل الصحون وتنظيف الخيمة والاستحمام، لكنه لا يكفي لأي شيء».
وعليه، تضطر العائلة إلى استخدام المياه نفسها لأغراض متعددة، بينما يستحم الأطفال على فترات متباعدة وتُغسل الملابس باستخدام كميات قليلة جداً من الماء، ما يجعلها غير نظيفة تماماً. ويضيف أبو سالم الذي كان يعمل سائقاً قبل الحرب أن «المشكلة ليست فقط في العطش، بل في كل تفاصيل حياتنا. لا يمكننا تنظيف أطفالنا أو غسل الأغطية، أو حتى تنظيف أواني الطعام. نحن نعيش في بيئة غير صحية تهدد حياتنا بالأمراض».
تتمثل المشكلة الكبرى التي يواجهها الغزيون في شح مياه الشرب والتنظيف
كذلك، تعاني المخيمات في الشمال من غياب دورات المياه الملائمة، ما يضطر العائلات إلى استخدام حفر امتصاصية بدائية محفورة بجوار الخيام، وهو ما يتسبب في انتشار الحشرات والروائح الكريهة. وتعقيباً على ما تقدّم، يردف أبو سالم: «في الليل يصبح الذهاب إلى المرحاض كابوساً؛ فالطوابير طويلة والأطفال يخافون الذهاب بمفردهم»، لافتاً إلى أن «بعض الجيران اضطروا إلى حفر حفرة صغيرة قرب خيمتهم كبديل، لكنها غير آمنة للأطفال، وقد وقع أحد الصغار فيها أخيراً».
ووسط تقاعسها عن تأدية مهامها، يطالب سكان شمال غزة المؤسسات الدولية بالتدخل بسرعة لإنقاذهم من أزمة المياه، عبر إعادة تأهيل الشبكات، وتوفير خزانات في المخيمات، وضخ المياه بشكل منتظم.
غاز الطهو
وبعد خمسة عشر شهراً من الطبخ على الحطب والأخشاب والدخان، انتهت المعاناة مع عودة غاز الطهو إلى شمال القطاع. أمام منزله المدمّر جزئياً في جباليا، يقف محمود النجار (32 عاماً) وهو يحمل بيديه أسطوانة الغاز، وينتظر دوره في الطابور الطويل أمام موزع الغاز، مؤكداً لـ»الأخبار»: «لم أتوقع أن يأتي هذا اليوم قريباً. عشنا شهوراً من العذاب، كنا نبحث فيها عن أي شيء يشتعل: أخشاب، بلاستيك، حتى قطع الأثاث القديمة أحرقناها من أجل إعداد وجبة طعام». وداخل منزله الذي فقد نصفه بفعل القصف، كانت زوايا المطبخ سوداء من الدخان، والأواني تفوح منها رائحة الحطب. وتقول زوجة النجار: «كنت أقضي ساعات في الطبخ، تجعل البيت يمتلئ بالدخان، وتجعلنا نكحّ طوال الليل فيما أطفالي ينامون على رائحة الحريق».
وعلى الرغم من أن كمية الغاز المسموح بها لكل أسرة محدودة، كانت شاحنات الغاز تمر على طول الطريق المؤدية إلى نقاط التوزيع، وسط تكبيرات الفرح، فيما يتبادل الأهالي التهاني وكأنهم يحتفلون بمناسبة وطنية. وأمام محطة التعبئة، صرخ أحدهم بعدما تسلم أسطوانته: «انتهى زمن الحطب!»
«المعمداني»
إلى ذلك، تعاني المنظومة الصحية في قطاع غزة من انهيار شبه كامل جراء حرب الإبادة الجماعية التي أسفرت عن تدمير معظم المستشفيات، بما في ذلك «مجمع الشفاء الطبي»، أكبر مستشفى في القطاع. وعليه، تتحمّل المنشآت الطبية القليلة التي لا تزال تعمل عبئاً هائلاً، وعلى رأسها المستشفى الأهلي العربي «المعمداني»، الذي أصبح الملاذ الوحيد لعلاج العديد من الحالات الحرجة في مدينة غزة، فيما فاقمت عودة آلاف النازحين إلى المدينة من التحديات أمام الطاقم الطبي الذي يعاني من نقص في العدد والمعدات.
وفي هذا الإطار، يقول المدير الطبي لمستشفى «المعمداني» في غزة، نصر التتر، لـ»الأخبار»، إن المستشفى يتحمل العبء الأكبر في تقديم الخدمات الطبية، وسط نقص حادّ في المستلزمات والأدوية، مشيراً إلى أن «المعمداني» أصبح الوحيد الذي يضم «أقساماً تخصصية نادرة، من مثل الأمراض الباطنية والعناية المركّزة، ما يجعله الملاذ الوحيد لمئات المرضى الذين يعانون من الجلطات الدماغية والقلبية وغيرها من الأمراض الباطنية الخطيرة». كذلك، يلفت التتر إلى أن تشغيل مستشفى «الشفاء» بعد تدميره كان تحدياً كبيراً لوزارة الصحة، لكنه لم يخفف من الأعباء عن «المعمداني»، مشيراً إلى أن نقص المعدات الطبية، مثل أجهزة «الألتراساوند» والتنفس الصناعي والتصوير المقطعي، يزيد من تعقيد الوضع، ومحذّراً من «كارثة صحية» في حال تعطل الأجهزة القليلة المتاحة.
وإذ يشيد بتفاني الطواقم الطبية التي تعمل على مدار الساعة، وتقدّم خدمات تفوق التوقعات رغم صغر حجم المستشفى، فهو يلفت إلى أن نسبة إشغال الأسرّة وصلت، خلال الحرب، إلى 200%، ما اضطر الطواقم الطبية إلى استقبال المرضى في الخيام والممرات. كما عمد المستشفى إلى تحويل الكنيسة الملحقة به إلى قسم للأمراض الباطنية، واستحداث قسم طوارئ جديد لاستيعاب الأعداد الهائلة من المرضى. وفي ظل استمرار الأزمة الصحية، يدعو التتر إلى توفير الإمدادات الطبية العاجلة، وتعزيز الطواقم الطبية، لمواجهة الاحتياجات المتزايدة.