مخيّم جباليا: هنا تسكُنُ روحُ المقاومة
متابعات..| تقرير*:
من فوق إحدى بنايات مخيم جباليا المرتفعة، والتي نجت مصادفة من زلزال الخراب الذي ضرب قطاع غزة بفعل الحرب الإسرائيلية، بدا المشهد مثل صحراء واسعة فيها تلال من الركام. أما الشوارع، فأودية ضيقة تحيط بها جبال الردم من جانبيها. وطوال 110 أيام من العملية البرية الأخيرة في شمال القطاع، والتي انتهت بدخول اتفاق الهدنة حيّز التنفيذ، الأحد الماضي، مارس جيش الاحتلال أعلى مستويات الانتقام بحق المخيم، الذي مثّل على مدى 70 عاماً، خزان المقاومة والثورة، حتى بات معروفاً أن كل عمل فدائي نُفّذ في فلسطين، من أقصى شمال غزة حتى شمال الضفة الغربية، لا بد من أن تكون بدايته من مخيم جباليا. وقد ثبت خلال عمليتين برّيتين سبقتا الهجوم الانتقامي الأخير، أن تكتيك الصدمة بكثافة النار المهولة، لم يمنع المقاومين من تنفيذ عشرات العمليات القتالية التي ألحقت خسائر بشرية فادحة بجيش الاحتلال. وجاءت عملية تدمير المخيم تماماً، ومحو الهندسة العمرانية التاريخية للمكان، بهدف محو مكانته المحورية كرافد دائم للمقاومة.
بلغة الأرقام، دمر جيش الاحتلال نحو 95% من منازل مخيم جباليا، فيما عدد المنازل التي دُمّرت بشكل جزئي ولا تزال قائمة على أعمدتها، تعدّ بالعشرات فقط. وعليه، أعلنت بلديات الشمال، المخيم ومدن شمال القطاع الثلاث، جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، مناطق منكوبة تماماً. ودعا رئيس بلدية بيت حانون، عماد عدوان، المؤسسات الدولية إلى استجابة سريعة تضمن تأمين مأوى عاجل للأهالي الذين هُدمت منازلهم، حيث شرّدت العملية الأخيرة أكثر من 130 ألف شخص. ومنذ اليوم الأول للهدنة، عملت بلديات شمال القطاع على فتح الطرق الرئيسيّة، وتفقّد مسؤولوها ما تبقى من بنية تحتية، إلا أنها صُدمت بـ»تعمد الاحتلال تدمير كل آبار المياه وشبكات الصرف الصحي، ما أعدم أي فرصة لاستعادة الحياة في تلك المناطق»، وفق ما يقول رئيس بلدية جباليا، المهندس مازن النجار، مضيفاً في حديث إلى «الأخبار»، أن «أكثر من 80 ألف منزل في محافظة شمال القطاع، أُزيلت عن وجه الأرض، وطمس العدو معالم المنطقة، حتى إن العائدين إلى المخيم لم يجدوا أي علامة تعرّفهم على الشوارع الرئيسيّة والمعالم البارزة فيه».
مخيّم جباليا مثّل خزان المقاومة والثورة في فلسطين على مدى 70 عاماً
أما كلمة السر في مقاصد العدو من هذا الخراب فكانت الهجرة الطوعية، إذ أُريد لأهالي الشمال، تحديداً، أن يفقدوا كل ما يربطهم بأرضهم ويدفعهم إلى البقاء فيها، على اعتبار أن علاقة الفلسطينيين بأرضهم قوامها ما يمتلكون فيها. على أن تلك الفرضية بدّدتها الوقائع على الأرض؛ إذ بدا أهالي المخيم، مثل خليّة نحل: المئات من الشباب يحاولون استصلاح غرف في منازلهم المدمّرة للسكن فيها، فيما من هُدمت بيوتهم تماماً، شرعوا في بناء خيام ممّا تيسّر من أخشاب وشوادر. ويقول أحمد طافش، الذي دُمّر منزله تماماً لـ»الأخبار»: «هدموا بيتي في العملية البرية الثانية في شهر أيار 2023. وبعد انسحابهم، جمعت حجارة المنزل حجراً حجراً، وعملت طوال شهر كامل على تشييد بيت بسيط عبارة عن غرفة ومطبخ وحمام. المهم أن أبقى في المخيم، ثم هدموا البيت في العملية الأخيرة. وأنا أبني خيمة على أنقاض البيت الثاني». وفي جوابه على فكرة الهجرة الطوعية يقول: «والله لن نهاجر. هذا التراب غال، غال جداً. رائحة دم أولادنا وشبابنا فيه. هذه البلاد عزيزة وغالية، هدموا بيوتنا ولم يهدموا عزمنا وإرادتنا».
أما الحاج أبو أحمد العر، وهو أحد سكان المخيم، الذي لم يغادره حتى خلال الاجتياح الإسرائيلي الأخير، فيؤكد هو الآخر، أن «العلاقة مع الأرض تصبح أكثر متانة بعد أن يضحّي الأهل بأرواحهم دفاعاً عنها». ويقول لـ»الأخبار»: «والله رائحة هذا التراب أغلى من كل العالم. نحن أهل البلاد، ونقبل بها حتى لو كانت خراباً».