نتنياهو في مواجهة الفشل الاستراتيجي والحفاظ على ائتلافه الحكومي (تفاصيل خطيرة)
متابعات / تقرير
مع قدرته على المناورة الداخلية.. تظل معضلة الفشل الاستراتيجي تواجه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو و”إسرائيل”. ولكن ما هي الخديعة الداخلية التي اعتمدها نتنياهو للحفاظ على ائتلافه الحكومي حتى اللحظة؟
وراء استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة أسباب متنوعة، أبرزها جسامة الصدمة التي تعرض لها كيان الاحتلال في الـ7 من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وما تلاها، وصولاً إلى واقع استراتيجي جديد، أكثر ضغطاً على المستوطنين ومؤسسة الحكم و”الجيش”، يشمل تعرّض مستوطني أقصى الشمال للتهجير، بلا أفق واضح لعودتهم واستئناف الإنتاج الاقتصادي، وغياب استقرار الحالة الأمنية العامة. وهذا كله دون التعرّض لكثافة نارية عالية (بالمعنى القتالي الميداني)، ما يطرح سؤالاً عن المستقبل: كيف لو انطلق استهداف كبير متزامن من لبنان وإيران واليمن؟ بعد تجربة لبنانية في عملية “الأربعون”، طبّقت تقنية خداع القبة الحديدية وتفويت مسيرات أصابت أهدافها، كما أظهرت عدة مقاطع مصورة حية، التي يمكن تكرارها باستخدام صواريخ دقيقة أو باليستية، بمعدّل إغراق محدد وأكبر.
من هنا لا يعد الإصرار على الإبادة في غزة، ثم انطلاق ضغط وإزاحة الفلسطينيين في الضفة الغربية، مسألة شخصية أو سياسية متعلقة بنتنياهو بالذات، ولا هي محض هروب للأمام أو تجنّب لمحاكمته بدعوى الفساد المالي السابقة أو الإهمال. بل تعبير عن وعي تاريخي عند الهيئة الحاكمة، وهو على رأسها، بضرورة ترميم القدرة على الردع بالمعنى المادي العملي، لا ترميم الهيبة والسمعة بالذات أو تجاوز سمة الفشل. كما لا يمكن فصل هذا نفسه عن تمدد حجم وقوة وتأثير “التيار اليميني المتدين”، وهو مصدر صلابة أيديولوجية ومعنوية بالفعل، لكامل المستوطنين، وحاضنة ملموسة للمشروع الصهيوني: يمثلون أدواته المباشرة بصفتهم “مواطنين” مسلحين فاعلين بدوافع أيديولوجية، يمثلون مصالح اجتماعية واسعة نسبياً، بقيادة نافذة – خلال العقود السابقة – في بنية “إسرائيل” نفسها.
في المحصلة نجح الائتلاف في استغلال خصوصية اللحظة، وتحدياتها الواضحة، في الاستمساك بقيادة المشروع الصهيوني، بذات السمات والأدوات وأطر العمل الأساسية التي أنشأت “إسرائيل” ونجحت في حفظ وجودها طوال عقود: العنف والإبادة، ومطاردة الديموغرافيا الفلسطينية، والاستناد إلى الحماية الاستراتيجية والتسليح من الغرب، وإلى التنسيق السياسي والعسكري مع أطراف عربية، على قاعدة التسلّح الأكثر تطوراً إقليمياً.
المستوى السياسي
منطقي وجود أسباب عملية ومباشرة تكفل لنتنياهو الاحتفاظ بتماسك الحكومة، وعجز المعارضة، كتلتا “هناك مستقبل” و”معسكر الدولة” (لبيد وغانتس) عن إسقاطها، ولعل منها البُعد الشخصي والعلاقات، وهو المعروف بقدرته العالية على المناورة واستقطاب الأطراف المتناقضة نحو موقفه، والبُعد الدولي – الدعم الأميركي. على أنه بتحليل تاريخي وبالمعنى السياسي، وفي الجوهر، لا يمثل نتنياهو محض “مافيا” أو مجموعة تحتكر السلطة بالاستيلاء، رغم اصطدامه بالقضاء و”الجيش”، بل شبكة مصالح ذات بُعد اجتماعي، مثل أي قيادة تستطيع الاحتفاظ بالسلطة في نزاع عليها، وكتلة سياسية وبيروقراطية تشمل اليمين الديني بحجمه الحالي – وحزب شاس والأحزاب المتطرفة الأصغر، هي كتلة الليكود، وفكرة جمعية ومخيلة مؤداها أن الكيان لا يجب أن يفاوض على حساب مصالحه الاستراتيجية الفارقة، في مقابل تهديد وجودي، ولو بدافع عملي آني مثل عودة الاستقرار وحفظ الحالة الأمنية.
ظلت أعداد المتظاهرين وأهالي الأسرى ضد الحكومة محدودة، أي لا تعبر عن إجماع واسع يسقط الأخيرة أو يجبر رئاستها على تفاوض حقيقي ووقف قتال، لا مناورة وحرق وقت وحسب. لذلك بدا أثر الإضراب العام لساعتين، الذي أقامه “الهستدروت”، خافتاً وغير فارق، وسط فوضى سياسية وأمنية ومع ظهور ملامح الكيان الفاشل، في مؤشر أن نتنياهو يلعب دور خيار الضرورة، اليميني بمعنى الجذري (على المقياس الصهيوني)، مؤدياً مهام آنية حيوية: حفظ تماسك “الدولة” ذاتها، وقدرة – بالحد الأدنى – على تحييد المخاطر الأمنية الأكبر، وتأجيل معالجة المخاطر الاستراتيجية، وتحقيق توازن عملي بين كتلة اليمين الديني الجذرية، ذات الظهير الشعبي المعتبر، واتجاه التسوية الذي يبدو مفتقراً لظهير مثله، ويعجز عن نزع شرعية الحكومة.
المستوى الإعلامي
على المستوى الإعلامي، ومع طول زمن الحرب، يعتمد نتنياهو أسلوب تغيير وإعادة توصيف المشكلة – التحدي دورياً، بصفة آنية، لتكون شمال القطاع حيناً وخان يونس حيناً آخر، ثم رفح وبعدها “محور فيلادلفيا”، فضلاً عن تأكيده أهمية “ردع الحزب” على الجبهة الشمالية، وهذا كله تحت عنوان عام لم يزل غامض الدلالة هو “إنهاء سيطرة حماس”، متجاوزاً في مخاطبته جمهور الكيان المسألة الأساسية، أي وقف إطلاق النار. ما أتاح له الأبعد من كسب الوقت: إقناع المترددين والمتضررين عملياً بأنها “حرب استقلال” جديدة، منطقي أن تطول لأنها تهدف لمعالجة مخاطر وجودية، تهدد جغرافيا “الدولة” نفسها، التي انتزعت سابقاً، بمنطق تاريخي، أراضي جديدة ومناطق عازلة ونقاط دفاع متقدمة، في الجولان وجنوب لبنان وسيناء، ولا يُعقل أن تقبل انكماشاً استراتيجياً وأمنياً مثل الحالي، في سبيل معالجة قضية تُعد إنسانية فقط – في الحساب الأخير – مثل استعادة الأسرى.
في الوقت نفسه، يخوض الرجل حرب الأفكار والصورة بأداة رئيسية هي التعتيم، والتضليل والتجزئة في إعلان الخسائر، ويرسم صورة للقوة بتقديم منجزات تكتيكية بصفتها استراتيجية، مثل عمليات الاغتيال في لبنان واستعادة “الجيش” بضعة أسرى من غزة. مع استغلال الدعم الأميركي المطلق، وعلاقاته الراسخة المتشعبة بالمؤسسة الأميركية الحاكمة، لإظهار وتجديد الكفاءة اللازمة والجدارة بقيادة المشروع الصهيوني، بالسلاح والسياسة، وتأكيد الضمانة الإمبريالية لأمنه وبقائه. في مقابل المعارضة، التي يضعها خطابه محل المتهاونة مع خطر وجودي، والمفيدة للعدو “محور الشر” بإثارتها الانقسامات السياسية، وامتناعها عن الدعم المطلق اللازم لعمليات “الجيش”. هنا وضع رئيس الحكومة معادلة مماثلة لما طرح في الكونغرس: إما إنقاذ “إسرائيل” سريعاً وترميم الردع، أو متاهة جدل سياسي وتفكك.
المستوى الاستراتيجي (الأمن القومي)
من زاوية استراتيجية يلخص ما سبق تداعيات ونتائج حالة الصدمة، التي اعتلاها نتنياهو رافعاً شعار “الوحدة الوطنية”، بصفتها ضرورة تاريخية لمواجهة خطر “قومي” غير مسبوق. والحالة سببها واقع وتحدي “وحدة ساحات” المقاومة، الذي زعم نتنياهو مواجهتها عبر حديثه عن استمرار القتال في غزة لـ”تقويض حماس”، وتوجيهه ضربات لحلف المقاومة، باستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق واغتيال هنية وسلسلة اغتيالات في لبنان، وقد استطاع استنفار وإدارة “الجيش” في حالة طوارئ خلال محاولته صد هجومين كبيرين، من إيران ولبنان، وإحضار رأس حربة منظومة الهيمنة الغربية، جيش وأساطيل أميركا، إلى المنطقة بكثافة غير مسبوقة للمشاركة في الدفاع والردع. وهذا كله تحمله قدرة جوهرية، فارقة في قراءة الموقف الحالي، على تشغيل الاقتصاد – بدعم غربي ودولي وعربي -، رغم الخسائر نتيجة غياب الاستقرار وارتفاع المصروفات.
ومع قدرته على المناورة الداخلية، تظل معضلة الفشل الاستراتيجي تواجه نتنياهو و”إسرائيل”، بلا حل نهائي قريب، وتجلي هشاشة جديدة كشفتها فاعلية المقاومة وترابط أطرافها.
وبصرف النظر عن نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية المرتقبة، يبدو أن الاستجابة الوحيدة الممكنة للخطر الوجودي، والتهديد الاستراتيجي غير المسبوق، هي العودة للأجندة الصهيونية الأساسية والخط العام للمشروع الصهيوني، في نسخة محدّثة يدعمها احتكار الإمبريالية للتكنولوجيا: السيطرة بالعنف والتطور العلمي على الجغرافيا، وإعادة تشكيلها داخل فلسطين، وإزاحة أو ضغط الديموغرافيا الفلسطينية، بإخراجها (بالتهجير التدريجي)، أو تقزيم فاعليتها السياسية والوطنية لتصبح محض أيدي عاملة رخيصة، أو شريكاً تجارياً أدنى. وعلى الرغم من هذه المحاولات والجرائم المرتكبة يعترف قادة “إسرائيل” أنفسهم بالخطر الوجودي الذي بات يهدد الكيان.
المصدر / الميادين