كل ما يجري من حولك

الشعوبُ لا تفنى بالحروب.. عصرُ غزة الذي بدأ

115

متابعات| تقرير*:

اندفع الغرب، منذ انتشار الصور الأولى لزلزال (طوفان الأقصى) فجر السابع من أُكتوبر، نحو مسار وحيد لا يُرى ثان له، وهو «استئصال حماس».

والمبرّرات التي قادت نحو ذلك الاندفاع السريع كانت كثيرة؛ فالحركة أصابت التقنية العسكرية الغربية في الصميم، ونجحت في ما فشل العرب في تحقيقه عندما قرّروا مواجهة “إسرائيل” بجيوش نظامية كان يعوزها الكثير، فضلاً عن أن صراعهم معها كان يسير وفق ضوابط تفرضها «مظلّة» النظام الدولي السائد وموازين القوى فيه.

أما «حماس»، فقد بدت متفلّتة مما تقدّم كله، دفعة واحدة؛ إذ شكّل (طوفان الأقصى) فعل تمرّد على النظام الدولي برمّته.

وفي مراحله الممتدّة منذ 11 شهراً، ظهر كتهديد وازن لهذا الأخير، من الممكن أن يصيبه في مقتل.

عندما حطّ وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في تل أبيب بعد أَيَّـام من «الطوفان»، قال إنه أتى؛ باعتبَاره «يهودياً».

والقول، الذي من شأنه أن يعيد الصراع إلى مربّعه الديني، هو مجازفة استدعتها «خطورة» اللحظة التي فرضت على «القلب» أن يكون الناطق فيها بدلاً من «العقل».

وسوف تكون للعودة إلى المربّع الديني تداعيات كبرى على نسيج «اتّفاقات أبراهام»، التي هدفت بالدرجة الأولى إلى تشبيك النسج القائم في المنطقة، تمهيداً لقيام «سلام المجتمعات» بعد ثبوت فشل «سلام الأنظمة».

على مقلب آخر، لم تدفع ملامح «النكبة» التي كانت الأشدّ في ما تعرّضت له دولة بهذه القدرات، بالغرب إلا إلى مواصلة إنكار الواقع، والقول إن الصراع في حقيقته يقوم بين «حركة متطرفة» وكيان هو أشبه بـ«حمامة سلام»، لكنها تملك مخالب نسر «للدفاع عن نفسها».. وذاك أمر من شأنه أن يؤدي إلى «تفسّخات» داخل ما يسمّى «الشرعية الدولية».

فالصراع، وفق ما تقرّه كُـلّ قرارات هذه الأخيرة، هو في جذره بين استيطان وسكان شرعيين؛ وعليه، فَــإنَّ «الانفجار» هنا مردّه ذلك الجذر، وانسداد الأفق أمام السكان الشرعيين لناحية إمْكَان استعادتهم لحقوقهم السليبة.

ومن المؤكّـد أن هذا يصيب «مصداقية» تلك الشرعية، التي يمثّل الغرب لبوسها من أعلى رأسها إلى أسفل قدميها، بـ«فتق» هو الأوسع من بين ما تعانيه جراء «ضيق» لبوسها الآنف الذكر.

وعلى رغم أن الديموقراطية الغربية أثبتت أنها النظام الأقل سوءاً من بين الأنظمة السائدة على امتداد العالم، إلا أن «صدع» غزة، بكل حمولاته الإنسانية والقيمية التي تركها، أثبت زيف «وصاية الغرب الأخلاقية»، والتي كَثيراً ما لعبت دور الذراع في بسط هيمنته العالمية، ووضعها على حافة السقوط.

من كان، قبل غزة، يحلم في أن تقوم «دول جنوبية» مثل ناميبيا ونيكاراغوا بجرّ دولة «غربية» من عيار ألمانيا إلى قاعات «محكمة العدل الدولية» بتهمة دعم الإبادة الجماعية التي تمارسها “إسرائيل” في فلسطين؟ ألا يشير ذلك إلى انقسام عالمي تتراصف قواه لتبرز في مواجهة ذات طابع قيمي إنساني بين «حلف إبادة» غربي وحلف «كافر» بهذا الأخير؟ ألا يشير أَيْـضاً إلى بدء فقدان الغرب لـ«سلطته الأخلاقية»؟ وخُصُوصاً بعدما تنادت منصّاته ومنابره لتبرير مناظر الإبادة التي ملأت العالم من أقصاه إلى أقصاه، في مؤشر صارخ إلى أن الخطابات السابقة الداعية إلى حماية الإنسان وتقديس حقوقه كانت زائفة تماماً.

بشكل ما، يمكن من خلال متابعة التحوّلات الجارية في النسيج الغربي على ضفاف «المقتلة» الفلسطينية ملاحظة بروز نزعة «المكارثية» من جديد، لكن الطبعة الجديدة من هذه الأخيرة تقوم على «تجريم» الشرائح والنخب الغربية التي تجرّأت وأعلنت مناهضتها لتلك المقتلة.

والظاهرة المشار إليها، بدت واضحة في طريقة التعاطي مع التظاهرات التي رفعت شعار «الحرية لفلسطين» و«الحرية لشعبها في موطنه من البحر إلى النهر».

أما تبلوراتها التي لم تصل بعد إلى مدياتها التي كانت عليها زمن الخمسينيات، فيمكن لحظها من خلال المراسيم والقرارات التي راحت تصدر بغرض تحجيم الدور الذي يمكن أن يلعبه أُولئك الذين لا يزالون يحتفظون بحسّ إنساني «عام».

والراجح هنا أن نمو النزعة المذكورة سوف يكون ذا حمولات أشد وطأة على البنيان الغربي مما كان عليه زمن الخمسينيات والستينيات، عندما «أفتت» المكارثية بضرورة مكافحة «الأثر» الشيوعي حيثما وجد، وأينما حَـلّ.

فإذا كان مبرّراً مكافحة القيم الشيوعية لوجود اختلافات جذرية معها وفقاً لمفاهيم الغرب، فما هو المبرّر لمكافحة جماعات لم تستطع رؤية شلال الدم وهو يتدفق، مريقاً معه كُـلّ ما تبقى من قيم وأخلاق لطالما مثّلت «ديدن» هذا الأخير على امتداد قرون؟

ما فعله يحيى السنوار، ومن ورائه غزة، هو أن معركته كشفت زيف الغرب ووحشيته، وأحالت إلى التقاعد نظريات عمّرت لقرون عدة حتى تحوّلت إلى «ديانات» بمرور الزمن، من نوع «دين» الديموقراطية، و«دين» حقوق الإنسان، بفعل رسوبها في الامتحان الأبرز ممّا تعرضت له على مرّ السنين.

وعبر ذلك، هدم السنوار كُـلّ أوهام «السلام» التي لطالما عشّشت في أذهان البعض العربي، حتى جيء بجدارات الثقافة لدعمها على نحو يمكن لحظه في «اتّفاقات أبراهام».

ألا يصحّ، كنتاج لما ورد ذكره أعلاه، القول إن السنوار قد أعلن، عبر طوفانه، بداية عصر جديد، لا بدّ وأن يجترح نظرياته الخَاصَّة به؟ وهي ستكون كفيلة بجبّ كُـلّ ما سبقها، كبداية لتاريخ يقول سطره الأول: إن الشعوب لا تفنى بالحروب، لكنها تفنى فقط بالمساومة على وجودها.

* الأخبار اللبنانية

You might also like