المفاوضاتُ تتعقّد ولا تنهار: معضلة «اليوم التالي»
متابعات| تقرير*:
بعد إشاعة التفاؤل، بناءً على الإشارات الدالّة، على قرب موعد الإعلان عن اتّفاق لتبادل الأسرى بين العدوّ الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، عادت الأمور إلى المربّع الأول، فابتعد الاتّفاق – ظاهريًّا – من جديد، ولكن عمليًّا، لا يَظهر أن هناك تراجعاً أَو تقدُّماً، إذ يَنتظر الأطراف نتائج المفاوضات الموازية المُستمرّة، والمتعلّقة بمقدّمات الاتّفاق نفسه، وبمراحله المختلفة.
وعلى رغم أن حركة “حماس” أبدت مرونةً في موقفها التفاوضي، وتحديداً لجهة مطالبتها بإنهاء الحرب، بعدما جرى ترحيل هذا البند إلى المرحلة الثانية من الاتّفاق والمباحثات التي ستدور بشأنها، إلا أن أصل المطالب الأُخرى لم يتغيّر، وفي المقدّمة منها: الانسحاب من محور “فيلادلفيا”، ومعبر رفح، والشريط العازل الذي بات يفصل الحدود المصرية عن أراضي غزة، إضافة إلى الانسحاب من محور “نتساريم”، الممرّ الذي يفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، وعودة النازحين إلى مناطقهم التي هُجّروا منها.
وتُعدّ تلك الشروط الثلاثة من المطالب التي لا يمكن أن تحيد عنها “حماس” وبقية الفصائل الفلسطينية؛ باعتبَارها جزءاً لا يتجزّأ من أي اتّفاق لتبادل الأسرى.
وإذ جرى بالفعل حسم المرحلة الأولى التي سيجري في خلالها إطلاق سراح العشرات من الأسرى الإسرائيليين ممَّن يُصنَّفون نساء وكبار سن ومرضى (يقال إن من بينهم 18 فقط على قيد الحياة، نتيجة العدوان الإسرائيلي على القطاع)، مقابل عدد محدّد من الأسرى الفلسطينيين، فإن المعضلة تتعلّق بالتزامات إسرائيل، سواء في المرحلة الأولى أَو ما يليها من مراحل.
وهنا، تُطرح عدة تساؤلات من بينها: كيف سينسحب العدوّ من الحدود الجنوبية مع مصر، ومن الممرّ في وسط القطاع، ويسمح للأهالي بالعودة إلى ديارهم، علماً أن ذلك يعني منح “حماس” “إذن مرور” لتعود وترمّم قدراتها وتستأنف سيطرتها على غزة؟
الواقع أن تل أبيب تعمل مع شركائها، ممَّن هم وسطاء في العملية التفاوضية أَو مَن هم خارجها، على إيجاد صيغة للتعامل مع تلك التحديات، خُصُوصاً أن إسرائيل تريد بالفعل الانسحاب من المحاور التي تسيطر عليها، لعدم قدرتها على تحمُّل الأثمان المترتّبة على مواصلة سيطرتها هناك، لكنها معنية في المقابل بإيجاد بدائل تراهن على تمكّنها من صدّ “حماس” ومنعها من ملء فراغ الانسحاب.
ولكن هذه الحلول لم تتبلور بعد، أَو بعبارة أكثر دقة، لم ينته الأطراف من بلورتها، إذ لا تزال محلّ أخذ ورد، سواء في المفاوضات الإسرائيلية الداخلية، أَو بين تل أبيب وشركائها، في ظلّ حضور وضغط أميركيَّين هائلَيْن في كُـلّ الاتّجاهات.
جرى بالفعل حسم المرحلة الأولى من الاتّفاق التي سيجري في خلالها إطلاق سراح عشرات الأسرى الإسرائيليين
ويبدو، في هذا الإطار، أن معضلة معبر رفح ومحور “فيلادلفيا” والحد الجنوبي مع الجانب المصري، قد وجدت طريقها إلى الحلّ، وهو أن يُستعان بقوات محلية فلسطينية يجري اختيار أفرادها وتأهيلهم لتولّي المهمّة الأمنية بالوكالة عن الاحتلال، الأمر الذي يراد أن ينسحب أَيْـضاً على ممر “نتساريم”، على أن يصار إلى توسعة حضور هذه القوة للسيطرة على المدن والبلدات في القطاع، ومنع “حماس” من العودة إليها؛ أي، باختصار، سلطة فلسطينية ثانية، منساقة تماماً وراء إسرائيل، كما كان عليه حال جيش العميل أنطوان لحد في جنوب لبنان، قبل عام 2000.
إلا أن هكذا نتيجة – على فرض إمْكَان تحقّقها – يستهلك الوصول إليها وقتاً طويلاً، سواء لناحية اختيار الأفراد والتأكّـد من ولائهم، أَو تدريبهم ونشرهم وإيكال المهمّة إليهم في الميدان.
وإلى حينه، يبدو أن الاحتلال والجانب المصري وجدا حلاً مؤقتاً، وهو الاعتماد على المراقبة عن بعد عبر القدرات والتقنيات، لمنع استخدام الحدود التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي.
بالنتيجة، كان على الجانب الإسرائيلي، وفق ما طالبه به الأميركيون، أن يبحث في هكذا معضلات قبل الخروج إلى الحرب؛ أي أن يخطط لـ”اليوم الذي يليه”، إلا أن “عمى الألوان” لدى صاحب القرار في تل أبيب، ولدى الجمهور وعموم الإسرائيليين، كما طغيان الرغبة في القتل والانتقام وتحقيق الانتصارات المطلقة، جمّدا التعامل مع تلك الاستحقاقات، ما يدفع الجانب الإسرائيلي الآن إلى البحث فيها وفي بدائلها، وإنْ متأخراً.
وهكذا، فإن اتّفاق تبادل الأسرى لا يزال ممكناً، لكنه ينتظر المفاوضات الموازية، إذ لم يعد فحسب اتّفاقاً على مُجَـرّد التبادل، بل على إنهاء الحرب نفسها وعلى اليوم الذي يليه.
* الأخبار البيروتية