كل ما يجري من حولك

في إيران: الأساليبُ تتغيَّر والقيمُ ثابتة

في إيران: الأساليبُ تتغيَّر والقيمُ ثابتة

1٬897

متابعات| تقرير*:

إبان الثورة الإسلامية في إيران، كانت الإيرانيات الرافضات لسياسات الشاه التغريبية (أي تقليد الغرب)، تتسابقن للبس الحجاب، فالنساء من كافة التيارات السياسية، حتى الأحزاب العلمانية اليسارية، ارتدَين الشادور أو الحجاب بوصفه أداة ثورية في مواجهة الشاه، وبعد انتصار الثورة، ولمّا كان الحجاب من المظاهر السلوكية للدين، كان لا بدّ أن ترمز النساء إلى الطابع الإسلامي للدولة، خاصة أن الحجاب في العصر الحديث، لطالما كان موضوعًا سياسيًا سواء للدول والحركات، إسلاميةً كانت أو غربية.

ما وراء الحجاب في إيران: القومية الدينية

في إيران، جذورٌ تاريخية عميقة للقومية، شكل الدين دومًا مكونًا بالغ الأهمية من مكوناتها. في الحقبات ما قبل الإسلامية، كان المجال الثقافي الإيراني يرجع إلى الزرداشتية (القرن الخامس قبل الميلاد)، ثمّ عبرت الإمبراطوريات الأخمينية ثم الساسانية، وقد ارتدت الشكل الراهن اعتبارًا من القرن الثامن، عندما دخل الإسلام بعد هزيمة الإمبراطورية الساسانية وعرفت بلاد فارس كيف تتكيف مع النظام السياسي الجديد، وتلعب فيه دورًا محددًا، وأجادت الربط بين المؤثرات الإسلامية والعوالم الفكرية لإيران القديمة ولليونان والهند.

وفي مطلع القرن السادس عشر، أدى اعتناق بلاد فارس للإسلام الشيعي في عهد الصفويين إلى قطيعة سياسية وثقافية مع بقية العالم الإسلامي، معزّزًا بذلك خصوصية تلك الإمبراطورية، فقد ركّب تداخل الثقافة الوطنية الإيرانية، والصوفية، والإمامية الإثني عشرية بشكل خاص، مجالًا فريدًا موحّدًا ومتناسقًا.

استمرّت العلاقة بين القومية والدين في إيران إلى عهد أول البهلويين رضا شاه، الذي سجّل قطيعة في العلاقة بين القومية والدين في إيران، وأراد تحديثها من خلال تغريبها بشكل جذري، ترافق مع سياسة مبرمجة لإزالة الإسلام من الميادين الحيوية، مع قمع وحشي للمعارضة، وخاصة المعارضة الدينية، الأمر الذي أعطى المجال لعلماء الدين للعب دور أساسي في إعادة القومية الدينية التي وقفت في وجه الهيمنة البريطانية على الموارد النفطية، ونجحت في قيادة العديد من الاحتجاجات والثورات، خاصة أن الخطاب السياسي العلماني لم يتمكّن من الدفاع عن الهوية الإيرانية. فظهر علماء الدين كأنهم الفئة الاجتماعية الوحيدة القادرة على الدفاع عن الهوية الوطنية بمواجهة الاعتداءات الإمبريالية والغربية.

عام 1936، أقرّ رضا شاه قانونًا يلزم الإيرانيات بخلع الحجاب لاعتباره من مظاهر التخلّف، أثار ردود فعل شعبية غاضبة استمرّت إلى أن تمّ إلغاؤه في عهد ابنه محمد رضا عام 1944. واستمرّ الخطاب العلماني في إيران ضعيفًا حتى انتصار الثورة عام 1979، بقيادة الإمام روح الله الخميني، ثمّ أجري استفتاء عام في البلاد حول اعتماد النظام الإسلامي. الواقع أنه في تلك الفترة، كانت هناك اندفاعة في فرض الحجاب، جاءت كردة فعل على تلك التي فرضت السفور بقوة السلاح.

الشارع ملك للمجتمع

عندما التقى الصحفي المصري فهمي هويدي برئيس القضاة في إيران (1981-1989) السيد موسوي أردبيلي، سأله عن مجموعة قضايا إشكالية فرضتها الثورة من ضمنها قضية الحجاب، وقد أثارت بعد الثورة جدلًا طويلًا، سأله: “أفهم أن تتدخل الدولة في تطبيق الأحكام الشرعية، ولكن الذي لم أفهمه هو لماذا تتدخل في تطبيق الآداب والأخلاق الإسلامية، وهي أمور يفترض أنها تنبع من داخل الإنسان، ولا يمكن أن يُلزَم بها الناس عبر السلطة أو القانون”. فأجاب السيد الأردبيلي: “يجب أن نفرّق بين المبدأ والأسلوب، وأنا أوافق على التفرقة بين الأحكام الشرعية والآداب الإسلامية… وهناك موقف شرعي في القرآن من السفور نتصوّره ونؤمن به، إذا كنا بصدد تطبيق الإسلام في إيران هل نتجاهل الموضوع ليظل ظاهر المجتمع كما كان قبل الثورة، أم نتدخل بالتوجيه لنصبغ مجتمعنا بتقاليد الإسلام؟…” وأضاف: “ليفعل كل شخص ما يحلو له في بيته، أما إذا خرج إلى الشارع فقد خرج إلى المجتمع، ويجب أن يلتزم بالإطار العام”. والإطار العام الذي أرادته الأغلبية هو النظام الإسلامي.

شرطة الإرشاد وشرعية النظام

سنوات طويلة مرّت تقلّب فيها الجدل حول الحجاب في إيران، استمر الغرب في محاولات اختراق الداخل الإيراني خلالَها طيلة أربعين عامًا. لا يمكن إنكار أن مسألة الحجاب في إيران ليست مسألة مستجدة، بل يتم الإشكال عليها منذ فجر انتصار الثورة من قبل الجماعات العلمانية وغير المتدينة أو تلك غير الملتزمة بالدين الإسلامي في إيران، وبالطبع تلك المعارضة للنظام، إلا أن الانتخابات التي تجرى بشكل متلاحق تعطي الشرعية لفرض مظاهر يقررها الأغلبية في الشارع الإيراني.

هذه الثغرة التي ازدادت اتساعًا خلال السنوات الماضية، شكّلت منفذًا للعقل الذي هندس الحرب التركيبية على إيران على الداخل الإيراني، خاصة في ظلّ الاختراق الثقافي الذي فرضته تحديات العصر والعولمة، وخصوصية أن المعني بها هنّ النساء. ذلك أن مركزية حقوق المرأة، هي إحدى الاستراتيجيات التي تستخدمها الولايات المتحدة في عملياتها السرية، باعتبارها أساسية للتغيير السياسي، استثمرتها في قضية وفاة الشابة مهسا أميني.

 نشرت مجلة فورين أفيرز مقالًا تحت عنوان “نساء إيران في الصفوف الأمامية – لماذا تنجح الحركات التي تقودها النساء. أوردت فيها أن الحركات السياسية النسائية يمكنها أن تجذب أعدادًا أكبر بكثير من المشاركين، وبالتالي سيُنظر إليها على أنها أكثر شرعية. كما أن محاولة تصدي القوى الأمنية للنساء المحتجّات بطرق غير سلمية، سيؤدي إلى ما يسمونه “عنف الدولة” تجاه النساء والأطفال، وهو الأمر الذي يشكل خطرًا على الشرعية المتصوّرة. وهذا ما استخدمته الأجهزة الإعلامية الغربية المتكاتفة مع تلك الإقليمية لاختراق شرعية النظام الإيراني إعلاميًا، من خلال محاولاتها القديمة – الجديدة لشيطنة شرطة الإرشاد.

يبدو أن المسؤولين الايرانين التفتوا إلى هذه الثغرة، إذ ثمة معلومات تشير إلى أنّ مسؤولين محافظين كبار في الجمهورية الاسلامية، قبل الأحداث بفترة ليست قصيرة، كانوا قد صوّتوا في المجلس الأعلى للثورة الثقافية مع إلغاء شرطة الإرشاد، حيث كان الأمر مطروحًا للنقاش كعادته منذ حكومة خاتمي ونجاد مرورًا بحكومة روحاني. وذلك مع العلم أن هذا النوع من الشرطة، تعتمده كافة الدول العربية ذات المجتمع الإسلامي، وقبل أن يتم تأسيس شرطة الإرشاد في إيران عام 2005. ففي مصر، ومنذ العام 1940، ثمة إدارة عامة تسمى شرطة حماية الآداب تابعة لوزارة الداخلية يرأسها مدير عام بدرجة مساعد وزير يشرف إشرافاً عاماً على جميع أجهزتها باعتبارها أحد مكونات قطاع الأمن الاجتماعي التي “تضطلع بهدف اجتماعي هو الحفاظ على الآداب العامة”. وفي المغرب أيضًا، ثمة فرقة أمنية تدعى شرطة الأخلاق العامة. وغيرها العديد من الدول مثل الامارات والجزائر.

قانون العفة وليس قانون الحجاب

بعيدًا عن التضليل الإعلامي، تحكي الكثير من المشاهدات لمن عاينوا المجتمع الإيراني عن قرب، والزوار والسائحين، أن المدن الكبرى ما عدا مدينة قم وما يقترب من مقام الإمام الرضا في مشهد، لا تشهد الالتزام بما هو حجاب شرعي منصوص عليه في الأحكام الإسلامية. حيث ينقسم مشهد الحجاب في إيران بين الحجاب الشرعي المعروف، والحجاب العرفي المألوف في المجتمع الإيراني ويسمى “الحجاب السيء المقبول”، وهناك “الحجاب السيء غير المقبول”. الواقع أنّ قسماً من الإيرانيات يرتدين الحجاب العرفي، بحيث يظهر جزء من شعر الرأس ولباسهن غير فضفاض.

الأساليب تتغير

في إطار الحديث عن تجميد السلطات الإيرانية لشرطة الإرشاد، تضجّ وسائل الإعلام العالمية بهذا الخبر كحدث عالمي، يشبه انهيار جدار برلين الذين أنهى الاتحاد السوفياتي، وبتجميدها سينهار النظام الإيراني. مع العلم أن المجلس الأعلى للثورة الثقافية لطالما ناقش إلغاء شرطة الإرشاد في وقت سابق لوفاة مهسا أميني.

يعرف المطلعون جيّدًا أن الدولة العميقة في إيران لديها من المقدرات وتملك من القوة ما يجعل هذه المقاربة الإعلامية السطحية مثيرة للسخرية، وأن البحث عن حلول حكيمة للمشاكل، وإظهار المرونة وتأمين الخاصرة الرخوة، ليس إلا مظهرًا لقدرة هذا النظام على الاحتواء وتنظيم مشاكله الداخلية بهدوء بعيداً عن الضجيج الخارجي المثار. إلى ذلك، فإن لجوء الغرب إلى الشيطنة الإعلامية بعد فشل الحروب الاقتصادية والأمنية، هو تفسير للعجز أمام هذه الدولة التي استمرت بالتطور على الرغم المقاطعة العالمية لها، والمحاولات الفاشلة لاختراقها بهدف هدمها من الداخل.

ما قاله رئيس القضاة عام 1985، أنه “يجب أن نفرّق بين المبدأ والأسلوب” يمكن أن نستحضره الآن لتفنيد مغالطة ان النظام الثقافي في انهيار، ذلك أن تغيير الأسلوب هو أمر ضروري يعبّر عن مرونة النظام السياسي في احتواء المشاكل الداخلية، تستخدمه كافة الدول، ولا يعني أن المبدأ قد تغيّر، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي خلال المنتدى الوطني حول مسؤولية تطبيق الدستور، عن إمكانية تغيّر الأساليب، وقال: “يمكننا مناقشة الآليات وفقا للظروف دون التغيير في القيم، لا يوجد في دستور الجمهورية الإسلامية أي طريق مسدود”. كما أكد محمد جواد منتظري النائب العام للبلاد أن اتخاذ القرار سيكون على أساس التخطيط، وستعمل عليه الأنظمة الأمنية والثقافية. ممثل رفسنجان في المجلس الإسلامي حسين جلالي، وهو عضو في اللجنة الثقافية، وله تاريخ من العمل في مكتب الشيخ مصباح اليزدي، قال إنه لا ينبغي أن يكون هناك دوريات إرشاد، لكن لدينا شرطة أمن أخلاقي وطريقة دعوتها تتغير.

الواقع أن ما يجري اليوم في الجمهورية الإسلامية ليس إلا تظهيرًا لواقع فئة علمانية ولا دينية معترضة لطالما كانت موجودة منذ فجر الثورة، وليس طفرة تحوّل ثقافي وقِيَمي واجتماعي، وأن المرونة التي يعتمدها النظام في حل المشاكل ليست سوى تضييق لنطاق الاختراق الغربي دون الاصطدام بالشرائح المعترضة.


* الخنادق: زينب عقيل

You might also like