جارالله عمر شهيد التسامح والدولة المدنية….. بقلم/صابرين جارالله
هو واحد من قادة الحركة الوطنية الأوفياء الشرفاء منذ ستينيات القرن الماضي وحتى نهار إستشهاده في 28 ديسمبر 2002م عرفته وهو طالب، ثم وهو ضابط، وتابعت أخباره في سجنه وفي نشاطه السياسي الذي لم يتوقف يوماً واحداً، وعرفته وزيراً للثقافة في دولة الوحدة فكان دائماً كما عهدته منذ البداية نظيف اليد والجيب والضمير واللسان.
وكانت قد تملكته منذ أواخر السبعينيات في القرن الماضي فكرة تجميع القوى الوطنية حماية لها وحرصاً على جهدها من التشتت والوقوع في أسر الإنقسامات والخلافات الثانوية.
وقد زادت هذه الفكرة توهجاً ووضوحاً بعد أحداث 13 يناير 1986م المشئومة وأكدت قناعاته الثابتة في منظومة من الرؤى الأساسية منها أنه من الصعب على تيار سياسي واحد مهما كان حضوره أن يحكم منفرداً وأن يقصي بقية القوى حتى تلك التي هي في طريقها إلى التكوين.
أما دور جار الله عمر في إعادة وحدة الوطن فقد كان على درجة عالية من الوضوح وكان يرى أن بقاء هذا الإقليم “اليمن” ممزقاً ومشطّراً بين دولتين متصارعتين لا يخدم إلاَّ القوى المعادية ولا يصب في مصلحة الوطن وأبنائه ، وكان ذلك موقف كل القوى الوطنية والزعامات السياسية جميعاً التقليدية منها والحديثة التي تولت المعارضة ضد الإحتلال من جهة وضد الإستبداد وحكم الفرد من ناحية ثانية، وكنت أستمعت إليه ذات يوم وهو يسترسل في حوار مع واحد من رفاقه المخالفين لما يدعو إليه من تسامح وإحترام لمن يخالفونا في الرأي والموقف، كان يقول:‘‘ إنه لا يختلف مع الأشخاص حاكمين أو محكومين وإنما يختلف مع الأساليب ومع النهج الذي يتخذه هذا الحاكم أو ذاك بعيداً عما تقتضيه مصلحة الحكم ومصلحة الوطن على السواء ‘‘
وكان في هذا الإتجاه الوطني الإنساني الديمقراطي نموذجاً فريداً في واقع أستشرت فيه الأهواء والمطامع ولعبت الإنتماءات المنحرفة دوراً في التضليل والعبث بالعقول وتزييف الوعي.
وما كان يزيد هذا المناضل تقديراً ومكانه في النفوس أنه لم يعرف اليأس ولم يتوقف عند التخرّصات والإشاعات التي حاولت النيل من طريقته في الدعوة إلى التسامح ورفض العنف وعدم القبول بمبدأ إحراق المراحل.
ومن حسن الحظ أنه لم يغمض جفنيه إلاَّ بعد أن كانت الملامح الأولى لمشروعه قد تجسدت في فكرة اللقاء المشترك الذي لو لم يفقده لكان هذا اللقاء قد نجح في تجاوز الخلافات وتحقيق الحد الأقصى من التعاون والوفاق والخروج من دائرة التنازع والإحتراب على السلطة التي لم تعد في شعوب العالم الثالث تشكِّل مغنماً بل مغرماً وتسببت في تأجيج الصراع الذي أسهم في إفقار هذه الشعوب وتبديد مقدّراتها المتواضعة خارج ما تقتضيه المصلحة الوطنية كالتعليم والتصنيع وإنعاش الإقتصاد وتوسيع دائرة مظلمة الرعاية الإجتماعية والإهتمام بالمواهب العلمية والأدبية.
لقد أثبتت الأيام أن الرحيل المبكر للمناضل/ جار الله عمر قد شكّل خسارة فادحة على الوطن وعلى الذين كانوا يخالفونه في الرأي خاصة ، فقد كان رمزاً للسلام والتسامح والتصالح كما كان حضوره الأخلاقي يحدّ من طموحات كثير من أصحاب الأطماع.
لكن ومهما ساءت الأوضاع وتغولت المخاطر فإن رسالته ما تزال مقروءة وتشكل معلماً لأهم المخارج لمن يريدون بناء يمن جديد وحدوي وحر ومتصالح مع نفسه قبل أن يتصالح مع الآخرين في النطاق الجغرافي القريب والبعيد فقد وصلت المحنة إلى كل قلب وخلقت نوعاً من تبلد الإحساس وعدم الشعور بالمعاناة التي فاقت كل تصور وكل طاقة على الصبر والإحتمال.