المعركةُ الأمنية بين إيران وإسرائيل.. من الأقوى؟
المعركةُ الأمنية بين إيران وإسرائيل.. من الأقوى؟
د. حكم أمهز*
في الفترة الاخيرة، تنامت النشوة لدى الاسرائيليين ووسائل اعلامهم، على خلفية تنفيذ الموساد الاسرائيلي بعض الاغتيالات والتخريب في ايران، وبدأ هذا البعض يتعامل مع القضية، وكانها انجاز عظيم وفتح اسرائيلي مبين.
اما الحقيقة فهي غير ذلك، والوقائع، تؤكد ان ما قام او يقوم به الاسرائيلي، ما هو الا، نقطة في بحر مما تعرض ويتعرض له، من قبل ايران واستخباراتها ومحور المقاومة.
*الصورة بشكل اوضح*
قبل انتصار الثورة الاسلامية في ايران، كانت اسرائيل تعيش نشوة عظمة القوة والتفوق على العرب والمسلمين، لدرجة وصفت جيشها بانه اسطورة لا تقهر ولا تهزم، وذهب موشيه ديان وزير الحرب الاسرائيلي (في سبعينيات القرن الماضي) الى القول ان كيانه قادر على احتلال لبنان بالفرقة الموسيقية، في وقت كان الشعار الاسرائيلي ، ارض اسرائيل من الفرات الى النيل.
في المقابل كان الفلسطينيون والعرب والمسلمون، يعيشون حالة احباط وانهيار كامل في المعنويات، بسبب تتالي الهزائم، من النكبة1948 واحتلال قسم كبير من فلسطين، الى النكسة عام 1967 واحتلال الجيش الاسرائيلي ما تبقى من ارض فلسطين واراض عربية شاسعة في دول في غضون ستة ايام)، الى رحيل الامل بتحرير فلسطين، بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر عام 1970، مرورا بحرب 1973 واجتياح اسرائيل للبنان عام 1978 وصولا الى اتفاق كامب دايفيد وخروج مصر من معادلة الصراع …الخ
الخلاصة، ان الاسرائيلي في تلك المرحلة، كان يعيش القوة القاهرة والرعب الداهم ويسعى للتوسع اكثر على حساب أمة مهزومة محبطة، لا قائد لها، بل انظمة متبعثرة، بعضها متآمر ومتخاذل، والقادر فيها ضعيف يخشى الغدر والخيانة.
*التحول في الصراع*:
مع انطلاق الثورة الاسلامية في ايران عام 1979، اصيب الكيان الاسرائيلي بزلزال هدد وجوده وحطم كل شعاراته واهدافه واسطورته.
اسقطت الثورة، العلم الاسرائيل من سماء طهران، وحولت سفارة الشاه الاسرائيلية، الى سفارة لفلسطين. فكان الامر بمثابة لكمة على الوجه الاسرائيلي اعمته وأعمت الامريكي من خلفه.
مع الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، ارسل قائد الثورة الامام الخميني(قده) الحرس الثوري الى لبنان، فوُلِدت المقاومة ، التي دحرت الجيش الاسرائيلي بـ”القوة” واخرجته، مهزوما ذليلا من دون قيد او شرط، لتحقق بذلك اول انتصارعسكري على الاسرائيلي منذ تاريخ احتلاله لفلسطين. وُصف الانتصار بـ”المعجزة”، فسقطت هيبة اسرائيل وجيشها. وتدحرجت اسطورتها على ايدي ابطال المقاومة في لبنان. وانقلب الحديث، فصارت الفرقة الموسيقية في حزب الله، قادرة على تحرير فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي وليس العكس.
كان الانتصار في لبنان ضربة ايرانية كبرى للاسرائيلي، بيد المقاومة. لانه لولا الدعم الايراني لما تمكنت المقاومة من تحقيق هذا الانجاز التاريخي.
مع الانتصار في لبنان عاد الامل للفلسطينيين بالتحرير، فارتفعت معنوياتهم الى السماء، وتأكدوا باليقين ان تحرير فلسطين ممكن، وتجربة لبنان نموذجا، بانه يمكن هزيمة اسرئيل ودحرها.
كثفت ايران دعمها للمقاومة الفلسطينية، وتحول سلاحها، من الحجر والسكين، الى البندقية والعمليات الاستشهادية، وصولا الى الصواريخ البالتسية والمسيّرات وتكنولوجيا التقنية العسكرية الحربية والقدرات الاستخباراتية العالية، وتحول الصراع الى حرب ادمغة، فتمكنت المقاومة من تحرير غزة وفرض معادلات عسكرية على العدو، قيدته واسهمت في سقوط العديد من حكوماته، وتسببت بإحداث انشقاقات بين الحكومات الاسرائيلية وقواعدها، فسقط شعار “ارض اسرائيل من الفرات الى النيل”، وبعد ان كان الصهاينة يسعون لبسط دولتهم على المنطقة الممدة من الفرات الى النيل ، تقوقعوا في دوائر جغرافية مجزأة، وحاصروا انفسهم بين الجدران والاسوارالتي رفعها جيش الاحتلال حماية لنفسه وللمستوطنين، على حدود غزة وداخل الضفة وحول المستوطنات، وعلى حدود لبنان، لدرء ضربات المقاومة.
ومع انتصارات المقاومة في فلسطين، تحطمت وتهشمت، اسطورة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر، وصار أطفال الامة يسخرون ويهزأون من الجنود الاسرائيليين، وتهاوت جدران الخوف والرهبة من نفوس ابناء الامتين العربية والاسلامية وتحررت نفوسهم من الكابوس الاسرائيلي الذي كان يرعبهم. فاشرأبت الاعناق نحو تحرير فلسطين،ووصل الامر بالخبراء والمحللين الى التنبؤ بان التحرير اصبح قريبا وليس وبعيدا.
وهكذا بدأ قادة الاحتلال يتحدثون عن ان ايران “واذرعها في المنطقة” تمثل تهديدا وجوديا لكيانهم ويحسبون لها الف حساب.
*الحرب الكونية على سوريا*
حاول الاسرائيلي بدعم امريكي ودولي، الالتفاف على ايران من الخاصرة السورية، بعد ان عجز عن مواجهتها مباشرة، فكانت الحرب الكونية على سوريا بهدف اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد “الحليف للثورة الايرانية، والداعم الكبير لمحور المقاومة”، وتقسيم البلاد، وقطع طريق امدادات المقاومة الممتد من ايران الى العراق فسوريا ولبنان وفلسطين..افشل الجيش السوري وحلفاؤه ا لمخطط بدعم ايراني معلن، ووصف الانتصار بـ”معجزة” اخرى، لان الحرب كانت كونية، خاضتها 180 دولة تقودها الولايات المتحدة الامريكية، بكل ما تمتلكه هذد الدول، من امكانيات، ضد سوريا.
وفشل المشروع الاسرائيلي وانتصرت سوريا، وبقيت عصية على التقسيم، وشمخت مجددا كاحد اعمدة محور المقاومة الاساسية، والمخرز في صميم العين الاسرائيلية. وكانت ايران احد اسباب النصر العظيم هذا.
ما اوردناه قليل من كثير، مما حققته ايران من ضربات كبرى واستراتيجية في الرأس الاسرائيلية. فهي افشلت كل المشاريع والاستراتيجيات الاسرائيلية ضدها وضد القوى والدول المتحالفة معها في المنطقة، وحطمت هيبة اسرائيل وجرتها نحو هاوية المصير الوجودي. حتى وصل الامر بالقادة الاسرائيلييين جميعا، ليقولوا، ان ايران تشكل تهديدا وجوديا لكيانهم.
ما حققته ايران هو تهديد وجودي لاسرائيل بكل ما للكلمة من معنى وفعل. ولكن هل هددت اسرائيل ايران وجوديا؟ وما هي انجازاتها ضد الثورة الاسلامية؟
*اسرائيل تشكل تهديدا وجوديا لايران؟*
باختصار، لو كان باستطاعة اسرائيل، ومعها الولايات المتحدة الامريكية، ضرب ايران واسقاط نظامها الاسلامي، لما تأخرا لحظة واحدة. بدليل ان راعية اسرائيل ، لا تتوانى عن التهام الضعفاء، والمثال في افغانستان والعراق.. اللتين احتلتهما.
صحيح ان طهران تعرضت لضربات اسرائيلية امريكية عبر اغتيال علماء نوويين قادة عسكريين، لكن هذه الضربات وفقا للتوصيف الامني ، تعتبر تكتيكية، ولم يكن لها تأثير على نتائج المعركة الكبرى والاستراتيجية. مثلا، هل اغتيال عالم نووي هنا او ضابط هناك، هزم ايران ؟ وما هو مقياس هذا الاغتيال مقابل التهديد الوجودي الذي حققت ايران في الكيان الصهيوني؟
رغم ذلك فان طهران ردت وترد على الاغتيالات الاسرائيلية، ولكن ضمن مخطط المعركة الاستراتيجي، ومن هذه الردود ما يعلن ومنه ما لم ولا يعلن لاعتبارات تتعلق بمسار المعركة وينضوي في اطار السرية.
*من العام الى شيء من التفصيل*
من خلال عمليات الاغتيال الاسرائيلية في ايران، يعتقد البعض ان ايران ضعيفة امنيا، وعاجزة عن الصمود امام الاختراقات الامنية. لكن بالوقائع، هذا الامر غير صحيح. كيف؟
الكل يعلم ان ايران تواجه منفردة ووحيدة، حروبا “دولية” اكرر “دولية” من مختلف الانواع بينها الامنية والاعلامية والنفسية والناعمة والاقتصادية والحصار والعقوبات الاقسى في التاريخ..الخ، ورغم ذلك صمت وي صامدة، وحولت التحديات والتهديدات الى فرص، حتى اصبحت من بين اول 15 دولة في العالم على الصعيد التكنولوجي والطبي والعلمي والصناعي العسكري والنووي..الخ.
هذه في المجمل، اما في الامن، فلو كانت ايران ضعيفة امنيا، لكانت انهارت منذ زمن طويل وشاهدنا الاخترقات الامنية والعسكرية يوميا وبالجملة، لان من يخوض الحروب الامنية ضدها، هي اعظم دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية واسرائيل.
لكن هذه الحروب قوت ايران وضاعفت من من قدراتها الامني، على الرغم من ان مساحتها الجغرافية تمتد على مسافة نحو مليون وستمئة وخمسين الف كلم بحدود تمتد على الاف الكيلومترات، محاذية لسبع دول كبيرة، اضافة الى حدودها المائية مع الدول العربية في الخليج وبحر قزوين.
كذلك فان هذه الجغرافية الواسعة، تضم قوميات مختلفة، وترى فيها الدول المعادية ارضا خصبة للعملاء، لوجود حركات انفصالية قومية عديدة، اضافة الى جماعة منافقي خلق الايرانية.وكل هذه الحركات، ترضع من الثدي الامريكي – الاسرائيلي – العربي وتتلقى التدريبات عندهم. ما يعني ان الاختراق الامني الداخلي في ايران يجب ان يكون اسهل على الاسرائيلي وحلفائه.
لكن وبالرغم من هذه السهولة واليسر، فان الموساد، واعتمادا على هؤلاء الخونة والجواسيس، لم يستطع ان يحقق الا اختراقات امنية صغيرة.
ويجب ان لا ننسى، ان الوكالة الدولية للطاقة الذرية من احدة اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية الامريكية. وقد سربت معلومات سرية عن البرنامج النووي الايراني، فنفذ بناء عليها، اغتيالات لعلماء نوويين، وكانت كاميرات الوكالة، عينا اسرائيليية، تم من خلالها استهداف احدى المنشآت النووية بالتخريب.
والملاحظ انه منذ ان اوقفت ايران عمل كاميرات الوكالة، ومنعت المتفشين النوويين من الوصول الى المنشآت والمعلومات النووية السرية، توقفت الاغتيالات والاعتداءات على العلماء والمنشآت النووية. واصيبت عين الموساد بالعمى.
جدير بالذكر ان ايران كانت اتهمت بشكل مباشر، الوكالة بتسريب معلومات سرية الى جهات خارجية، ادت الى اغتيال العلماء النوويين واكدت انه سلوك الوكالة مسيس وغير مهني وغير قانوني.
*ضربات ايران ضد الاسرائيليين*
يتفاخر الاسرائيليون، بان الموساد اغتال ضابطا في الحرس الثوري.. هو حسن صياد خدايي.. والمغدور لم يكن معه مواكبة او مرافقة امنية، ولم يكن يحمل سلاحا، وكان يرتدي لباسا مدنيا، ويركب سيارة من نوع “برايد” ايرانية الصنع هي الارخص على الاطلاق بين اكثر من عشرين نوعا من السيارات، تصنعها ايران.
ووفقا للخبراء الامنيين، فان المغدور يعتبر هدفا سهلا وليس صعبا..رغم انه اختراق امني. ولكن الاسرائيلي سعى ان “تضخيم” الانجاز، حتى يبدو وكأنه خرق عظيم في استراتيجية المنظومة الامنية الايرانية.. وهنا لا بد ان نلتفت الى ان طهران، لم تعلن حتى الان، عن حجم ووظيفة الشهيد خدايي، لانه وفقا لذلك تتحدد اهمية الانجاز الاسرائيلي.
اذن ضخم الاسرائيلي انجاز اغتيال خدايي، ولكن الايراني لم يكن بحاجة الى تضخيم انجازه بزرع عميل له داخل منزل وزير الحرب بيني غانتس. فتضخيم ا لانجاز، منه وفيه.
ولو ارادت الاستخبارات الايرانية ان تغتال غانتس لاغتالته. ولو فعلت، كم كان هذا الانجاز بدا عظيما؟
المهم ان الموساد اعترف بزرع ايران هذا العميل في منزل غانتس، ونشرت وسائل اعلامه تفاصيل مع صور.
ايضا، شغلت ايران وزير الطاقة والبنى التحتية الاسرائيلي غونين سيغيف، منذ العام 2012 وحتى اعتقاله عام 2019 ، وحكم عليه بالسجن احدى عشرة سنة، لنقله معلومات “مهمة” الى الحرس الثوري.
في الفترة الاخيرة، اوصلت الاستخبارات الايرانية، وثائق الى الموساد الاسرائيلي، تتضمن، صورا ملتقطة من على الارض وليس الجو، للمواقع الجديدة للاسلحة النووية وملفات ووثائق كاملة عن اجهزة امنية حساسة مع معلومات سرية وحساسة عنها.
وبعث الاستخبارات الايرانية ايضا، الى عناصر اسرائيلية في مواقع هامة جدا، معلومات شخصية ووظيفية، بينها تفاصيل عن علاقات خارج اطار الزوجية.
وشنت ايران هجمات سبرانية على مواقع الاحتلال الرسمية والهامة واخترقتها، وصفتها حكومة الاحتلال هذه الاختراقات بغير المسبوقة على الكيان..
هذا غيض من فيض.. فمن يتلقى الضربات الكبرى. اسرائيل ام ايران؟
سؤال اخر، تخيلوا لو ان ايران غير موجودة، اين كانت اسرائيل اليوم؟
انتظروا قليلا لتروا مسك الختام قريبا….القضية مسالة وقت لا اكثر…
* باحث في الشؤون الاقليمية والدولية