بوتين يعيدُ صياغةَ العلاقات الدولية و”إسرائيل” الخاسرُ الأكبر
بوتين يعيدُ صياغةَ العلاقات الدولية و”إسرائيل” الخاسرُ الأكبر
متابعات| تقرير*:
التاريخ لا يعيد نفسه إنما هناك من يتعلم من أخطاء التاريخ فيعيد كتابته وفق نجاحاته ومراجعاته فيقوم بفكفكة الأحداث وإعادة تركيبها وفق مراجعاته للأخطاء، وما يجب عليه أن تكون وليس وفق ما كانت سابقاً..
واليوم يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإعادة كتابة التاريخ وفق ما يجب عليه أن يكون فما قاله سابقاً في خطابه السنوي أمام الجمعية الفيدرالية الروسية سنة 2005 “إن الحقيقة الواضحة هي أن تفكك الاتحاد السوفياتي كان الكارثة السياسية الطبيعية الأعظم في القرن العشرين”، كان إعلاناً واضحاً عن النية لاستعادة كبرياء الاتحاد الروسي المفقودة. وها هو اليوم يبدأ من حيث انهار الاتحاد..
ولربما من المفيد العودة إلى “ما كتبه مستشار الإمبراطور “نيقولا الأول” خلال حكم محمد علي باشا في مصر والشام (1830-1840) حين قال “إن عظمة روسيا بأن تكون أول المتكلمين في كل مرة يطرح فيها مصير الشرق على بساط البحث”، وهذا الشرق الذي يتحدث عنه المستشار “نيسلرود” هو المتواجد على أبواب الإمبراطورية، أي الشرق الأوسط وآسيا الصغرى. وإلى جانب مصالح القيصرية الروسية وأطماعها في الشرق الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية بالإضافة إلى المذهبية الدينية التي جرى تجييرها لخدمة المصلحة السياسية رغبت روسيا (الأرثوذكسية) بتزعم العالم بعد سقوط قسطنطينية بيزنطة. وما يقوم به بوتين اليوم لا ينفصل عن الأهداف الاستراتيجية السابقة بل إعادة لرسم الخطط للتحقيق تلك الأهداف الاستراتيجية.
وفي العودة إلى أحداث أوكرانيا عام 2014 فقد كتب المحلل السياسي الاميركي توماس فريدمان في 8 آذار من ذلك العام “أن نكون جادين بخصوص ما يجري في روسيا، يعني أن نكون جادين في التعلم من أخطائنا الكبيرة التي ارتكبت بعد سقوط جدار برلين. كان من الخطأ أن نفكر بأنه يمكننا توسيع حلف شمال الأطلسي إلى ما لا نهاية، عندما كانت روسيا في أضعف حالاتها وعندما تكون روسيا الأكثر ديمقراطية وأن الروس لن يهتموا لذلك. كان من الخطأ أن نفكر بأنه يمكننا معاملة روسيا الديمقراطية كعدو، كما لو كانت الحرب الباردة لا تزال مستمرة، وأن نتوقع من روسيا التعاون معنا كما لو أن حقبة الحرب الباردة انتهت، وأن هذا لن يؤدي إلا لأن نواجه برد فعل عنيف مناهض للغرب مثل البوتينية”.
واليوم، نجح الرئيس الروسي في بناء منظومة عسكرية رادعة لأعداء روسيا الاتحادية، واستعاد الاقتصاد الروسي قدرا كبيرا من العافية والانضباط في ظل نمو مستمر، ففي السنوات الأخيرة سددت روسيا الاتحادية كامل ديونها الخارجية قبل موعدها. كما نجحت في تكوين احتياط ضخم من الذهب والعملات الصعبة من عائداتها المرتفعة من مبيعات البترول والغاز الطبيعي، وهو ما كان غير متوقعاً لدى الغرب.
بالتالي، فإن إصرار القيادة الروسية على تلك الرسائل القوية تفيد بإعادة التأكيد على مكانة روسيا الاتحادية الجيوسياسية على رقعة الشطرنج الدولية كما أوضح ماكس هاستينجز الكاتب والمؤرخ البريطاني في كتاباته أن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الوريث الروحي لجوزيف ستالين”.
وإذا ما أردنا تلخيص الأهداف الاستراتيجية الأساسية لروسيا فنجدها تتلخص بجمع كل الشعوب الناطقة بالروسية في دولة قومية واحدة. ففي عام 2014، وبعد ضم شبه جزيرة القرم، بموجب الاستفتاء الشعبي، أوضح بوتين أنه “بعد حل الاتحاد السوفييتي، ذهب الملايين من الناس إلى الفراش في دولة واحدة واستيقظوا في بلدان مختلفة، وأصبحوا بين عشية وضحاها عرقيين الأقليات في جمهوريات الاتحاد السابقة، بينما أصبحت الأمة الروسية واحدة من أكبر-إن لم يكن أكبر مجموعة عرقية في العالم- يتم تقسيمها حسب الحدود”.
بالتالي فإن ما يثير قلق الغرب ليس فقط ترانسنيستريا أو شبه جزيرة القرم أو شرق أوكرانيا، إنما المجتمعات الناطقة بالروسية في دول البلطيق وفي آسيا الوسطى. ما يعني أنّ إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتي السابق كوحدة جيوسياسية واحدة إن لم يكن دولة واحدة باعتبارها “مجتمع أوراسي” بات أمراً قريباً للتحقق إلى حد كبير، وبات العالم اليوم على توقيت الكرملين..
وفي ضوء هذه الحقائق تبين أن موسكو تستعيد ألق الحضور السوفييتي، مقابل تراجع للقوة الأميركية، الصلبة والناعمة، وكما يقول الفيلسوف والمحلل السياسي الروسي ألكسندر دوغين، إن “العالم أحادي القطب، والأيديولوجية العالمية، والهيمنة الغربية آخذة في الانهيار”، وهكذا فإنه ليس ثمة مصلحة لأي من دول الجوار الإقليمي أو دول العالم المؤثرة في إشعال هذا الحريق في هذا التوقيت، فقد بدا لافتاً وبالتزامن مع بدء الأزمة أن إعلان الولايات المتحدة الأميركية عدم التدخل عسكرياً دعماً لأوكرانيا، وهو مسعى أميركي لتخفيض الإنفاق العسكري الضاغط على صدر اقتصادها، فيما تشكل الأزمة ضغطاً لا يحتمل على عنق أوروبا كون وارداتها الكبيرة من النفط والغاز الروسي تمر عبر أوكرانيا، وهذا ما يفسر ظهور الجميع متفاجئاً بما حدث، مربكاً في تصريحاته ومواقفه وخيارته، فما قام به الروس هو البدء بساعة الصفر وفق توقيتهم لا التوقيت الأميركي أو الغربي ولا حتى الأوكراني الذي بات واضحاً أنه عاري بعد أن تنصلت الولايات المتحدة من مؤازرته عسكرياً..
ومن المؤكد إن الغرب عموماً استوعب تماماً ومنذ الأزمة الجورجية “تموز 2007” مخاطر ونتائج أي عبث في الحديقة الخلفية الروسية، وأن الروس الساعين بقوة للبقاء في المياه الدافئة شرق المتوسط لن يسمحوا بقطع الطريق إلى حلمهم القديم – المتجدد، مستندين إلى نجاحات اقتصادية لافتة حققها الاقتصاد الروسي في السنوات الأخيرة، وبات واضحاً أنّ الولايات المتحدة لا تريد أن تقف مكتوفة الأيدي وهي مستعدة لاتخاذ أي إجراء لمنع تقدّم روسيا عبر استهداف الاقتصاد الروسي بالدرجة الأولى من خلال العقوبات التي تفرضها على موسكو من جهة، وإعادة الاستقرار في حلف الناتو بعد أن بدا الأعضاء الأوروبيون ينفصلون بشكل متزايد عن الولايات المتحدة، وبالتالي تسعى واشنطن لضرب عصفورين بحجر واحد، فهي تحتاج إلى الاستفادة من أزمة أوكرانيا لتقسيم روسيا وأوروبا، وتعزيز الناتو وتعزيز سيطرة الولايات المتحدة على الحلف.
ما يعني أنّ الأزمة الأوكرانية الحالية ليست في الأساس مشكلة روسية أوكرانية، لكنها مشكلة أميركية – أوروبية، خاصة مع تزايد القلق الأميركي بشأن عدم امتثال ألمانيا وفرنسا لإرادتها الأمر الذي قد يؤدي إلى خروج العلاقات الأوروبية الأميركية عن المسار الحالي وهذا ما دفع بالولايات المتحدة إلى إفساد مشروع خط أنابيب الغاز Nord Stream-2 ومنع ألمانيا وروسيا من تكوين نوع من الشراكة الاقتصادية، وهكذا نشأت مشكلة أوكرانيا عندما أعلنت الولايات المتحدة “غزواً روسياً وشيكاً”.
أما الدور “الإسرائيلي” فيها فإنه ليس وليد اللحظة فنجده في الأزمة الجورجية منذ بدايتها وخلال سير أحداثها، حيث كانت “إسرائيل” وراء افتعالها، بل قدّمت كل أشكال الدعم العسكري والإعلامي والأسلحة المتطورة، ودفعت بدعم سياسي غربي للقيادة الجورجية آنذاك، فيما كان لافتاً صمت تل أبيب عما جرى ويجري في أوكرانيا منذ العام 2014، أما اليوم فيعتلي الموقف “الإسرائيلي” الكثير من الغموض ما بين المتوجس من تحقيق الأهداف الروسية في أوكرانيا، وبين ما سينعكس عليه من تلك الأهداف خاصة بعد إعلان روسيا عدم الإعتراف بسيادة “إسرائيل” على الجولان السوري المحتل، ولا ننسى الجمعية الإمبراطورية الأرثذوكسية الفلسطينية التي تأسست عام 1882 وإعادة إحيائها كمنظمة روسية دولية تحت مسمى الجمعية الروسية الفلسطينية، وهي تهدف لتقوية وتطوير علاقات روسيا بشعوب الشرق الأوسط في كافة المجالات الدبلوماسية والعلمية والثقافية والدينية والاجتماعية.
ما يدفعنا للاعتقاد بقوة إن “إسرائيل” وحدها من يمتلك الدوافع والمصلحة، ويؤمّن لها وجود 1.5 مليون يهودي يحتلون مواقع مميزة في الإعلام والاقتصاد، القدرة على افتعال هذه الأزمة، واستثمار نتائجها في إرباك المشهد الدولي، للحصول على أفضل النتائج من فوضى المشهد الاستراتيجي العالمي، وما يؤكد ذلك أن هناك مقولة بارزة يرددها خبراء في العلوم السياسية والعسكرية تقول: “ابحث عن الصهاينة.. ستعلم لماذا يشتعل العالم”.
في المحصلة، الرئيس الروسي أعلن موقفه بالفعل لا بالقول، والأوراق التي سيكسبها من هذا الفعل سيصرفها على طاولة المفاوضات، مؤسساً لمرحلة جديدة، ومسطراً تاريخاً جديداً بحبر روسي، وما أراده الغرب من خلال الضغط عليه سينعكس عليهم سلباً بعد أن بات يملك دبلوماسية القوة وقوة الدبلوماسية في الملفات الدولية. فبعد أن امتنعت الولايات المتحدة والناتو عن إعطاء ضمانات أمنية مكتوبة لروسيا بشأن أمنها القومي والذي تهدده الصواريخ الناتوية المتواجدة في الدول الحدودية كما لم تلتزم أوكرانيا باتفاقات مينسك وبعد استنفاذ كل الفرص فإن ما يقوم به بوتين اليوم هو استجرار لتلك الضمانات بالقوة بعد فشل الدبلوماسية، وكما يقول البريطانيون: “إذا أردت السلم فاستعد للحرب”، وها هو بوتين يستعد للحرب بل ويدق طبولها وسط إرباك أوروبي – أميركي، ورغم كل العقوبات التي فرضها الغرب مجتمعاً ضدّ روسيا فإنّ الغاز الروسي مازال قوة روسية ضاغطة على أوروبا وخاصة ألمانيا، الأمر الذي سيدفع الغرب في نهاية المطاف إلى الجلوس على طاولة المفاوضات والقبول بالشروط الروسية، المعنونة بالغاز مقابل حياد دول أوروبا الشرقية عن الناتو.
* الخنادق| سماهر الخطيب