الحلفُ الصيني-الروسي: على رقعة الشطرنج الدولية المَلِكُ لم يعد أمريكياً
الحلفُ الصيني-الروسي: على رقعة الشطرنج الدولية المَلِكُ لم يعد أمريكياً
متابعات| رصد*:
في الغرب، هناك ما يعرف باسم “أثر الخبر المُرتقَب”، ويعني الإعلان عمّا يتوقّع أن يحصل بهدف تبنّيه. في الكثير من الأوقات، يتمّ الإعلان فقط، ثمّ الانتظار والتّهاني عندما يحصل ما أعلن عنه…أما بالنسبة لروسيا والصين فالأمور على عكس ذلك، حيث يقلّ الكلام، ولا يعلن إلّا عمّا سيتمّ إنجازه بالتّأكيد. وفي الكثير من الأوقات، يكون الإعلان مجرّد كشف عمّا تحقق فعلياً.
دعت روسيا والصين في بيان مشترك يوم الجمعة 4 شباط/ فبراير 2022 حلفَ شمال الأطلسي إلى وقف توسعها بإعلان (تحالف “أوكوس”) بينما قالت موسكو إنها تدعم بالكامل موقف بكين بشأن تايوان وتعارض استقلال تايوان بأي شكل من الأشكال.
صدر البيان المشترك، الذي تضمن انتقادات شديدة للولايات المتحدة، خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصين لحضور دورة الألعاب الأولمبية الشتوية. وقال الكرملين إن بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ وصفوا العلاقة بين البلدين بأنها شراكة متقدمة ذات طابع خاص. كما كشف بوتين النقاب عن صفقة غاز جديدة كبيرة مع الصين، في علامة أخرى على تعميق العلاقات بين الجارتين في وقت يشهد توتراً شديداً في علاقاتهما مع الغرب. وأعرب البلدان عن قلقهما إزاء “تقدم الخطط الأمريكية لتطوير دفاع صاروخي عالمي ونشر عناصره في مناطق مختلفة من العالم، إلى جانب بناء قدرات أسلحة غير نووية عالية الدقة لنزع سلاح الضربات وأهداف استراتيجية أخرى”. وقالوا إنهم يعارضون زيادة توسيع حلف شمال الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة ودعوا الحلف إلى التخلي عن “مقارباته الأيديولوجية للحرب الباردة”.
يعتبر وقف إضافة دول أعضاء جديدة إلى الناتو شرقاً مطلبًا رئيسيًا للكرملين في مواجهته مع الغرب بشأن أوكرانيا. ورفضت الولايات المتحدة بعض مقترحات موسكو الرئيسية لكنها قالت إنها مستعدة لمناقشة مواضيع أخرى مثل الحد من التسلح. وذكر البيان المشترك أن الصين تدعم مقترحات روسيا بوضع ضمانات أمنية ملزمة قانونا في أوروبا. وقال الكرملين إن الرؤساء ناقشوا أيضًا الحاجة إلى توسيع التجارة في العملات الوطنية بسبب عدم القدرة على التنبؤ فيما يتعلق باستخدام الدولار. يأتي هذا في القوت الذي أكّد فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن أنّ الشركات الروسية قد تنقطع عن قدرتها على التجارة بالدولار كجزء من العقوبات إذا غزت روسيا أوكرانيا.
يقود العالم الحالي الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي، اللذان يقدمان نفسيهما على أنهما القوتان العالميتان الوحيدتان، في حين أن الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية أقوى منهما، اقتصاديًا وليس عسكريًا. في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2021، أصدرت موسكو مسودة معاهدة ثنائية مع واشنطن تنص على ضمانات السلام، فضلاً عن مسودة اتفاقية لتنفيذها. في الواقع، هذه الوثائق ليست موجهة ضد الولايات المتحدة، وإنما تهدف فقط إلى جعلها تطبق ميثاق الأمم المتحدة وتحترم التزاماتها.
في 23كانون الأول/ ديسمبر2021، وخلال المؤتمر الصحفي السنوي للرئيس بوتين، أثار سؤال من مراسلة سكاي نيوز ديانا ماجناي جدلاً كبيرا حيث رد فلاديمير بوتين باقتضاب بأن ملاحظات روسيا حول سلوك الولايات المتحدة تعود إلى عام 1990 وأن واشنطن لم تتجاهلها فحسب، بل استمرت في المضي قدمًا. الآن، أسلحة الناتو على وشك أن يتم نشرها في أوكرانيا، الأمر الذي سيكون حقيقة غير مقبولة بالنسبة لموسكو. لم يسبق أن عبّر زعيم روسي عن نفسه بهذه الطريقة. يجب أن يكون مفهوماً أن تثبيت الصواريخ في غضون أربع دقائق بالطائرة من موسكو يشكل تهديدًا شديدًا وسببًا كافيا للحرب.
ان يخرج هذا البيان من قوتين (عضوين دائمين في مجلس الامن) يواجهان ما يعتبرانه انتهاكات جسيمة لكل المواثيق والقوانين الدولية (ميثاق الأمم المتحدة) تقوم بها الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها في حلف الناتو، فهذا له دلالاته المتعددة:
1-هو حلف معلن ضد الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا تلتزم بالقانون الدولي وتنتهكه باستمرار.
2- هو اعلان دفاع عن أمن القوتين الروسية والصينية وامتداداته
3- هو عبارة عن هجوم “دبلوماسي” هدفه محاولة تفكيك عناصر القوة العسكرية للمنافس الأمريكي.
1-البيان المشترك: اعلان عن حلف مضاد للولايات المتحدة وسياسات الناتو:
يعزّز المحور الصيني-الروسي قوته في ردّ على السياسات الامريكية التي رفضت المقترحات الروسية، ونظّمت حملة إعلامية واسعة مفادها أنّ روسيا تستعدّ لِاجتياح اوكرانيا في شهر شباط، وهو ما نفته كييف رسمياً. وفي الوقت الذي ينتشر في أوساط النّاتو خليطٌ من الهستيريا والارتباك، تستفيد لندن من هذا الحال لإعادة تفعيل شبكات ستاي بيها يند السّرّيّة. تجدر الإشارة هنا الى أنّ كلٌّ من النّاتو والولايات المُتّحدة رفضوا اقتراح روسيا المُتعلّق بمعاهدة تضمن الأَمن (وهو اقتراحٌ كان الكرملين قد أعلن عنه في 17 كانون الأول 2021)، حيث اقترحت روسيا أن يحترم البلدان ميثاق الأمم المُتّحدة، وأن تحترم واشنطن الوعود الشّفهيّة الّتي كانت قد أعطتها فيما يتعلّق بعدم توسّع النّاتو إلى ما وراء خطّ أودر-نايسه الّذي يفصل بين ألمانيا وبولندا. أكّد وزير الخارجية أنطوني بلينكن أنّ بلاده ترفض فكرة تقييد توسّع النّاتو بأيّ شكل. بينما ذهب وزير الخارجية البريطاني بين والاس أبعد من ذلك، مؤكّداً أمام مجلس العموم أنّ: “العديد من البلدان قد انضمّت إلى حلف النّاتو بناءً على الإرادة الحُرّة الّتي عبّرت عنها حكوماتها وشعوبها، وليس لأنّ النّاتو أجبرها على ذلك”. في حين ذكّر وزير الخارجية الرّوسي سيرجي لافروف أنّ الولايات المُتّحدة، المملكة المُتّحدة، وجميع الدّول العُضوة في منظّمة الأمن والتّعاون كانوا قد وقّعوا على إعلانَي إسطنبول (1999) والأستانة (2010)، حيث وقّع 57 رئيس دولة أو حكومة على هذين المُستَنَدين الّلذين ينصّان على ما يلي:
أوّلا، أنّ كلّ دولة حرّة في الانضمام إلى الحِلف العسكري الّذي تختاره.
ثانيا، أنّ كلّ دولة مُلزمة بألّا تُعزّز أمنها على حساب أمن الدّول الأخرى.
إضافة الى ذلك بدا أنّ انضمام الأعضاء السّابقين في حلف وارسو إلى النّاتو، يعني نشر الأسلحة الأمريكية على أراضيهم، والتي كانت عنصرا مهدّدا لأمن روسيا. أمّا ملاحظة وزير الخارجية البريطاني بين والاس المُتعلّقة بإرادة الشّعوب أن تنضمّ إلى النّاتو، فهي خاطئة بالنّظر إلى الوقائع. ففي الاستفتاء الشّعبي المتعلّق بانضمام مقدونيا الشّمالية إلى النّاتو (30 أيلول 2021)، أجاب 91.46 %من المُقترِعين “نعم”، ولكنّهم لم يُمثّلوا إلّا 33.75%من النّاخبين. بالإضافة إلى ذلك، طالما لم تقبل جميع الدّول العضوة في النّاتو بانضمام إحدى الدّول إلى الحِلف، يبقى هذا الانضمام غير شرعي.
شرح الأمين العام للّناتو يِنز ستولتنبرغ جواب الحِلف على اقتراح روسيا، والمتمثل في ثلاث اقتراحات واشتراطاً واحدا:
1-إعادة فتح البعثات الدّبلوماسية بين النّاتو وروسيا
2- الشّروع في نقاشاتٍ جديدةٍ فيما يخصّ ضبط التّسلُّح والقواعد المتعلّقة بالصّواريخ القصيرة والمتوسّطة المدى
3- اقتراح قواعد جديدة فيما يتعلّق بشفافيّة التّدريبات العسكريّة والمنهجيّة النوويّة.
4- إخلاء ترانسنيستريا، القرم، أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية الّلواتي يحتلُّهُنَّ الجيش الرّوسي في مولدافيا، أوكرانيا، وجورجيا.
تهدف الاقتراحات الثّلاث إلى الحدّ من احتمال وقوع حربٍ نوويّة، وهي تظهر أنّ أعضاء النّاتو يعلمون جيّدا مخاطر الحرب النّووية. يظهِر اشتراط إخلاء ترانسنيستريا، القرم، أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، مرّةً أُخرى، أنّ الكتلة الغربية ترفض حقّ الشّعوب في اختيار مصيرها، الّذي يضمنه ميثاق الأمم المُتّحدة. يُظهر تاريخ هذه المناطق الأربع أنّ الشّعوب الّتي تقطنها مُختلفةٌ عن المولدافيّين، الأوكرانيين، والجورجيّين، وأنه لم يكن هنالك أيّ تطهير عرقيّ، واختار كلّ شعب استقلاله عن طريق الاستفتاء الشّعبي. بالإضافة إلى ذلك، طلبت شبه جزيرة القرم المُستقلّة أن تنضمّ إلى دولة روسيا الفدرالية، الّتي قبلت ذلك. تجري الأمور كما لو كان كلٌّ من الولايات المُتّحدة والنّاتو مصابين بالطّرش في وجه روسيا. خلال الأسابيع الماضية، قامت إسبانيا، إستونيا، إيطاليا، بلغاريا، بولندا، الدّانمارك، رومانيا، ليتوانيا، لاتفيا، والمملكة المُتّحدة بإرسال عتادٍ أو نشر جنودٍ في اوكرانيا بهدف الدّفاع عنها. لم تكن الصّحافتين الأمريكية والبريطانية وحيدتين في نشر الإشاعات، بل انضمّت إليهما صحافة اوروبا الوسطى، الشّرقية، ودول البلطيق. هذا بالرّغم من أنّ الرّئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ووزير الدّفاع الأوكراني ألكسي ريزنيكوف لم يتوقّفا عن تكرار أنّ هذا الخطر غير موجود، وأنّ بلادهم غير مُهدّدة على المدى القريب.
هذا الاختلاف الهائل ضمن الكتلة الغربية صادم، ويؤكّد أنّ الولايات المتّحدة تفكّر في إطارٍ منفصلٍ عن الواقع. بالطّبع، كانت روسيا تتوقّع أن ترفض الولايات المتّحدة المعاهدة المقترحة، ولكنّها لم تتوقّع ردّ فعل واشنطن، الرّافض لجميع حجج روسيا. يبدو أنّ الرّئيس بايدن قد تبنّى استراتيجيّة الرّئيس السّابق ريتشارد نيكسون في وجه الإتّحاد السّوفياتي: نظريّة “الرّجل المجنون”. تقضي هذه النّظريّة بتبنّي مواقف متناقضة بنبرةٍ عدوانيّة، بهدف تخويف الخصم وحمله على التّراجع. أو، بعبارة توماس شيلِّلنغ، التّحدّث عن “خطرٍ يترك السّاحة للعشوائيّة”. كانت هذه الإستراتيجيّة قد فشلت في حرب الفييتنام، وليس من المتوقّع أن تنجح في محاولتها الثّانية، خصوصاً أنّ فريق عمل الرّئيس فلاديمير بوتين أكثر حنكةً من فريق عمل السّكرتير الأول ليونيد بريجنيف. اٍنّ خدعة لاعب البوكر تواجه هنا حسابات لاعب الشّطرنج.
من السّهل إيجاد حلّ دبلوماسيّ للتّوتّر المحيط بأوكرانيا. أولا لأنّه، بالرّغم من عدم توقّف واشنطن وبروكسل (مركز النّاتو) عن التّذكير بحقّ أوكرانيا في الانضمام إلى الحلف، فإنّ ذلك غير وارد على الإطلاق، لا اليوم ولا على المدى المتوسّط. ثانيا لأنّه يكفي أن يستعيد الحلف إعلانه عام 1996، بأنّه “لا ينوي، لا يخطّط، ولا سبب لديه لنشر أسلحة نووية على أراضي أعضائه الجدد” حتّى تعود الماء إلى مجراها على المدى القريب، على الصّعيد العسكري. يبقى أنّ السّؤال الّذي تطرحه روسيا أوسع بكثيرٍ من تواجد القوّات العسكرية في اوكرانيا، ويتعلّق بِاحترام المُعاهدات.
2- عصر جديد من العلاقات الدولية يبدأ بدبلوماسية هجومية يقودها الروس والصينيين
من المؤكد ان قرار الصين، الدولة العضو في مجلس الامن الدولي لم يأت اعتباطا ولا صدفة، فالواضح ان الحصار الأمريكي للصين ومحاولة شيطنتها بناءا على العديد من الازمات والعناوين في كل المناطق، ليس اقلها في ازمة الملف التايواني التي لا تقل أهمية وخطورة عن الازمة الأوكرانية، او حتى في سياسات الدفاع او الحصار الاقتصادي المعلن من قبل الإدارة الامريكية، كان كافيا لتقف الصين هذا الموقف وتعلن عن مساندتها للمواقف الروسية وانتهاجها دبلوماسية هجومية في تحدي واضح وصريح للسياسات الامريكية المجحفة والتي تنتهك بكل وضوح المواثيق والقوانين الدولية وعليه، بات الإعلان عن عصر جديد للعلاقات الدولية، اعلان عن دبلوماسية جديدة قادرة على مواجهة الولايات المتحدة ومحاصرة سياساتها الأحادية الجانب والظالمة.
يبدو ان الرد الروسي جاء بناءا على عدم استجابة الولايات المتحدة الامريكية للمقترحات الروسية من جهة، التي فتحت المجال لأدواتها في حلف الناتو وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا بالتحرك للمضي قدما في سلسلة الضغوط القصوى من اجل محاولة ارباك الموقف الروسي ومحاصرته. من هنا بدت المواقف متباينة حتى داخل أعضاء الناتو الذين يعيشون القلق والارباك بسبب التخوفات من احتداد الازمة بناء على ما يحصل حول الملف الاوكراني وظاهرة التسلح الجنونية. من هذا المنطلق ظهرت المواقف مربكة ومختلفة:
أوّلا، المملكة المُتّحدة، الّتي أعادت تفعيل شبكات ستاي بيهايند السّرّيّة الّتي تعود إلى الحرب الباردة. كثيرٌ ما ننسى آنّ الحلف الأطلسي قد كوّنتاه تاريخياً الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة بعملٍ مشترك. بالطّبع، بعبارة الرّئيس شارل ديغول، ليس النّاتو إلّا واجهة للهيمنة الأمريكية على اوروبا، لأنّ القائد الأعلى للحلف هو دائماً ضابطٌ أمريكي، ولكنّ القرارات السّياسية تتَّخذ بشكلٍ مشترك بين واشنطن ولندن، وليس الحلفاء الباقون سوى أتباع. بالطّبع، هذا ليس ما تنصّ عليه معاهدة شمال الأطلسي، ولكن هذا ما برز مرّةً أخرى خلال الحرب على ليبيا. لم ينعقد المجلس الأطلسي لاتّخاذ القرار بمهاجمة طرابلس، بسبب اعتراض بعض الأعضاء. اتخذ القرار خلال اجتماع سرّيّ في نابولي بين الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة فقط، بحضور بعض الحلفاء اللّذين تمّ اختيارهم. كان دور الوصيّ هذا قد دفع واشنطن ولندن طوال الحرب الباردة إلى تكوين شبكات ستاي بيهايند للتّدخّل في سياسات الدّول العضوة الدّاخليّة، مع موافقتها المبدئية، ولكن دون علمها. تضمّنت هذه التّدخّلات اغتيال رئيس المجلس الإيطالي آلدو مورو، والانقلاب على النّظام الجمهوري اليوناني ووضع نظام العُقداء العسكري في مكانه. في فرنسا، دعم النّاتو منظّمة الجيش السّرّي، محاولا أن يغتال الرّئيس ديغول أربعين مرّة. كشف البنتاغون علنيّاً أنّ هذه الشّبكات -الّتي لم يتمّ حلّها يوماً، رغم العديد من الإعلانات- قد تمّ توسيعها لتضمّ اوكرانيا. استنتجت روسيا أنّ اوكرانيا اصبحت واقعياً عضوةً في الحلف دون أن تستفيد من المادّة 5 من معاهدة شمال الأطلسي، الّتي من المُفترض أن تضمن أمنها.
أعلنت لندن أيضاً أنّها ستعزّز تضامنها العسكري مع بولندا ضمن إطار حلف ثلاثيٍّ بينهما وبين أوكرانيا. في بضعة أسابيع، أصبحت وارسو عقدة المواصلات الّتي تمرّ عبرها جميع المساعدات المتوجّهة إلى كييف. إلّا أنّ البولّنديون لا يرغبون أن يظهر تورّطهم بشكلٍ صارخٍ. لهذا السّبب اقترحوا على روسيا أن تفحص القواعد الأمريكية على أرضهم، مقابل أن يمكَّنوا من فحص القواعد الرّوسيّة في إقليم كالينينغراد.
ثانيا، الولايات المُتّحدة والمملكة المُتّحدة قلقتان من قلّة انصياع الحكومة الألمانية الجديدة بقيادة المُستشار أولاف شولتس. فقد منعت برلين تحليق الطّائرات البريطانية المُحمّلة بالأسلحة الموجّهة إلى اوكرانيا فوق أراضيها. كما طالبت برلين بأن تفصل المسألة الأوكرانية عن مسألة وضع أنبوب نورد ستريم 2 الأساسي لاقتصادها في الخدمة. وقد جاء وزير الخارجية أنطوني بلينكن شخصيا ليعظ حكومة شولتس، ولكن، بدلاً من النّقاش مع روسيا، تبقى المانيا عالقة في شباك النّقاشات الدّاخليّة ضمن حكومتها الائتلافية.
ثالثا، اما بالنسبة لفرنسا فقد أعاد الرّئيس إيمانويل ماكرون فتح المفاوضات ضمن صيغة نورماندي، بهدف تطبيق اتّفاقات مينسك وتهدئة الوضع في اوكرانيا. تحاور ماكرون مطوّلاً مع نظيره الرّوسي، الرّئيس فلاديمير بوتين. ولكن، في هذا الملفّ، المشكلة في مكان آخر: الأوكرانيون هم من يرفضون تطبيق الاتفاق الّذي وقّعوا عليه.
في واشنطن تتوافق الطّبقة السّياسيّة الرّأي فيما يتعلّق بروسيا، ولكنّها تختلف على طريقة ثَنيِها. خلال ثلاثة أسابيع، فكّرت هذه الطّبقة بأسوأ العقوبات. ولكن، إذا تبنّتها الآن، ستجد موسكو نفسها مُعاقبةً قبل أن تجتاح اوكرانيا، وسيكون بإمكانها أن تقوم بذلك دون عواقب لتخشاها. بشكلٍ جدّيٍّ أكثر، يدعم الجمهوريون أطروحات مؤسّسات هيريتاج ، بينما يتعلّق الدّيموقراطيون بأطروحات مركز التّقدّم الأمريكي. جميعهم يعلمون كلّيّاً أنّ تطبيق الالتزامات الّتي تعهّدوا بها ضمن إطار منظّمة الأمن والتّعاون عبر التّوقيع على إعلانَي اسطنبول (1999) والأستانة (2010) يعني بداية النّهاية.
يبدو أنّ “الإمبراطورية الأمريكية” مهدَّدة، ليس فقط من روسيا والصين اللتان تعملان على تثبيت أساليب وخطط المواجهة بشكل جديّ، وبات الان علني من خلال هذه الدبلوماسية الهجومية على سياسات الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، بل القانون الدّولي الّذي يبقى دون تطبيق حتّى الآن. لكن السّؤال الّذي يطرح نفسه هو أيّ وسائل ستكون روسيا جاهزة لاستخدامها في سبيل إجبار واشنطن على احترام القانون الدّولي (بمفهوم منظّمة الأمم المتّحدة وليس بمفهوم الولايات المتّحدة)؟ كان نائب وزير الخارجية الرّوسي سيرجي ريابكوف قد ترك الباب مفتوحاً على امكانيّة نقل صواريخٍ إلى كوبا أو فنزويلا. ولكنّ نائب رئيس مجلس الدّفاع الرّوسي دميتري ميدفديف أعلن أنّ هذا الأمر “غير وارد”، لأنّه يتعارض مع مصالح هذين البلدين؛ وهي طريقة أخرى لقول أنّ تواجد الأسلحة الأمريكية في أوروبا الوُسطى والشّرقيّة يتعارض مع مصالح الدّول الّتي تأويها.
3- اعلان حلف دفاعي مشترك روسي-صيني لمواجهة الولايات المتحدة وسياساتها:
أدّى تباطؤ واشنطن في الإجابة على الاقتراح الرّوسي العائد لأواخر 2021، والهستيريا الواضحة في الكونغرس، إلى إيقاظ الصّين، التي لاحظت قانون إقرار الدّفاع الوطني لسنة 2022، الصّادر في 27 كانون الأول 2021، والّذي ينصّ على ميزانية دفاعيّة (دون احتساب القنابل النّوويّة) هائلة الحجم، 768 مليار دولار! فلسفته بوضوح هي عزل بكين. بذلك، لم يفوْت وانغ يي، وزير الخارجية الصّيني، فرصة إنذار نظيره الأمريكي أنطوني بلينكن… بوجوب الإجابة على مطالب موسكو “المحقّة”. في 15 كانون الأول 2021، استعرضت موسكو وبكين التّحالف العسكري بينهما. كان هذا يومان قبل نشر مسوّدة المعاهدة الرّوسيّة-الأمريكية. تحدّث الرّئيسان بوتين وتشي جينبينغ عن دعم هذا الموقف الرّوسي في مؤتمرٍ عبر الفيديو، وأكّدت الصّين رسمياً على شرعيّة الشّروط الرّوسيّة. نعم، توجد نقاط اختلافٍ عديدة في الآراء بين روسيا والصّين (وتوجد ايضاً نقاط نزاعٍ، مثل سيبيريا الشّرقيّة)، ولكنّ روسيا والصّين مجبورتان على مساندة بعضهما بعضاً. فقد تعرّض البلدان لهجمات الغربيّين في ماض ليس ببعيد. كلاهما ذاق طعم النّفاق الغربي، ويعلم كلٌّ منهما حاجته للآخر فيما يتعلّق بمقاومة الغرب. خلال السّنوات الّتي مضت، أتقنت روسيا استخدام أسلحة جديدة. عام 2014، استعرضت قدرتها على تعطيل أجهزة التّواصل وأنظمة التّحكّم على متن مدمّرة امريكية (دونالد كوك) مُجهَّزة بنظام “أيجيس” الّذي يصِلها بجميع قاذفات الصّواريخ الأمريكية، ثمّ كرّرت هذه المناورة النّاجحة مع حاملة الطّائرات الأمريكية رونالد ريغان. لاحقاً، استعرضت روسيا في المشرق قدرتها على توسيع الدّائرة المحظورة على اجهزة التّواصل والتّحكّم التّابعة للنّاتو إلى 300كيلومتر مربّع اليوم، أصبحت روسيا تتفوّق في مجال الحرب التّقليدية. كما شكّلت الحرب في سوريا فرصة استغّلتها موسكو لِاختبار عددٍ من الأسلحة الجديدة الّتي تبيّن أنّ بعضها يفوق نظيره الغربي بِأشواط. في الوقت ذاته، يُظهِرُ فشل مشروع طائرة ف-35 العملاق، مع فشل هذه الأخيرة في تأدية مهامّها، أنّ الأبحاث العسكرية الأمريكية في حالة عُطل. يتمّ بيع هذه الطّائرة المتعدّدة الأدوار إلى الحلفاء، ولكنّ القوّات الجوّيّة الامريكية تخلّت عنها، وعادت لِإصدار نسخٍ جديدةٍ لطائرة ف-16 القديمة. بالإضافة إلى ذلك، ابتكرت الصّين طريقة فعّالة لِتدمير الأقمار الصّناعية، ويبدو انّها مكّنت روسيا من استخدامها. أجّج تدمير قمر صناعي سوفياتي قديم (15تشرين الثّاني 2021) على مقربة من محطّة الفضاء الدّولية المشاعر في صفوف النّاتو، فروسيا والصّين اصبحتا قادرتَين على عمي عيون وصمّ أذان جميع جيوش النّاتو في بضع ساعات.
خطوة بخطوة، بدأ الاتفاق الصّيني-الرّوسي يتأكّد؛ هذا المحور أقوى بكثير من قدرة الولايات المُتّحدة وحلفائها على مواجهته. من هذا المنطلق بات الحديث عن انطلاق عصر جديد في العلاقات الدولية امرا منطقيا، حيث تتغير كل الأساليب والسلوكيات الدولية في التعامل مع الازمات وفي حل النزاعات والدفاع والمواجهة وحتى في الخطاب المعلن. كان البيان المشترك عن دخول العلاقات الدولية عصر جديدا، اعلانا واضحا بأنّ الخطوات لتحقيق هذا العصر الجديد أصبحت جاهزة، بل ربما هي دخلت حيز التنفيذ بشكل واضح.
هذا العصر الجديد للعلاقات الدولية المعلن من قبل الروس والصينيين هو اعلان عن:
-تحصين المصالح المشتركة للقوى المناهضة للسياسات الامريكية.
-انشاء حلف دفاعي-أمني جديد هدفه مواجهة الخطط والمؤامرات الامريكية أحادية الجانب.
-اسقاط الإمبراطورية الامريكية والقضاء على منطق الأحادية في تقرير مصير الشعوب والدول.
-اضعاف الأدوات الامريكية (الناتو).
-صياغة قوانين دولية جديدة قادرة على إعادة التوازن للعلاقات الدولية وضمان الامن والسلم الدوليين.
* الخنادق