رحل مستعمر الأمس وأبقى أذنابه ليعيدوه!
بقلم\ د.سعيد سالم الحرباجي
يقول البردوني:
لماذا الذي كانَ ما زالَ يأتي؟
لأنَّ الذي سوف يأتي ذهبْ
لأنّ (أبا لهبٍ) لمْ يمُتْ
وكلُّ الذي ماتَ ضوءُ اللَّهبْ
فقام الدخانُ مكانَ الضياء
له ألفُ رأسٍ وألفا ذنب!!
رحم الله الشاعر الفيلسوف فهو بهذين البيتين اختصر لنا الحقيقة الغائبة التي يبحث عنها كثير من قاصري الفهم وعامة الناس الذين ينظرون إلى الأحداث بمنظار سطحي حينما يَعقِدُون مقارنة بين حقبة ما قبل الثورة والفترة الزمنية التي تلت الاستقلال.
والحقيقة أنَّ الناظر للأمور بهكذا نظرة عفوية يجد أن لديهم كثيراً من الصواب.. ذلك أنهم يقارنون بين وضعين وحالين وتاريخين (تاريخ الاستعمار وتاريخ ما بعده) فينظرون إلى الاستقرار الأمني المُغيّبة فيه حريتهم, المُصَادَرة فيه كرامتهم إبّان حكم الإنجليز، فيقارنونه مع الانفلات الأمني الذي تلى خروج المستعمر وما شابه من فوضى عارمة تمثلت في قتال الإخوة الأعداء والتصفيات القذرة والأزمات الاقتصادية ووووو… فبهكذا مقارنة يرون أنّ أيام الإنجليز أفضل لهم بكثير, لأن أهداف الثورة التي تغنوا بها وضحوا من أجلها لم يعد لها مكان!
لكن هؤلاء وأولئك لا يدرون أنّ المستعمر لم يغادر البلد وإنما أخرج جيوشه العسكرية من الباب ليعود هو من النافذة، وبفلسفة البردوني.. فأبو لهب لم يمت وإنما الذي مات هو ضوء اللهب, فأطفأ بظلامه القاتم ذلك الضوء المنبعث من بعيد وهو يحمل بكلتي يديه ألف رأس وألفي ذنب، وهو هنا يقصد أنه كان لدينا عدو واحد للثورة.. وما إن خرج من الباب حتى ولد ألف رأس وألف ذنب..
تمثلت تلك الولادة في كثرة الرؤوس التي تدعي الملك الحصري لنتائج الثورة, وكذا في كثرة الأحزاب والتكتلات والمسميات التي ولدت سفاحاً من الإنجليزي.
ذلك أنّ الإنجليزي الخبيث عندما شعر بإصرار عزيمة الثوار بضرورة خروجه من جنوبنا الحبيب، تراجع خطوة إلى الوراء ليقوم بترتيب وضعه لما بعد عملية المغادرة فاهتدى شيطانه إلى إعداد العملاء والخونة وضعفاء النفوس وبائعي الأوطان.. فعمل على تأهيلهم ليواصلوا مشواره الاستعماري الخبيث بعد خروجه, وهذه الخطوة كانت بالنسبة له أقل كلفة, لأنه هنا بعيد عن أي مساءلة قانونية أو أخلاقية وعلى قول المثل العامي:
(الحجر من الأرض والدم من رأس المواطن)
فعملاً بنظريته القبيحة (فرِّق تَسُدْ) قام بنقل رأس الأخطبوط إلى لندن وترك أرجله الرخوة هنا في بلادنا.. فيعمد على تحريكها لتمزيق الفريسة المنهكة..
وهذا ما تجلى بوضوح من خلال الصراع الدامي بين الإخوة الأعداء رفقاء السلاح والذي تمثل في (جبهتي القومية والتحرير) وما تلاها من صراعات وتصفيات وسطو على ممتلكات الناس وتأميمها ونهبها وتشريد وقتل رموز الثورة وقادتها وعلمائها ومفكريها؛ فتشظى المجتمع وتمزق نسيجه الاجتماعي وتفتتت وحدته العضوية.. فدخل الناس في فتنة عمياء لا ترى لها رأساً من ذنب.. فيا للعجب!!
وإزاء هذا الوضع المزري الرخو واصل الإنجليزي الحاقد مشواره ودأب على تحريك أرجل العنكبوت لتواصل عملية التمزيق المجتمعية.. وفي الوقت ذاته واصل الرفاق -بغباء- خدمتهم المجانية للاستعمار بالاقتتال والاحتراب وإشعال الفتن وإفساح المجال للمناطقية العفنة والتي تكللت بكارثة يناير 86م المشؤوم مروراً بحرب صيف 94 حتى وصلنا إلى مأساة اليوم وجرحنا النازف الحالي.
ومنذ ذلك التاريخ الذي ظننا فيه أنّ الاستعمار قد رحل، يفاجئنا أنّه وإلى هذه اللحظة لا يزال ممسكاً بالملف الجنوبي وأولاده الذين تركهم هنا يُنَفِذُونَ له ما يريد.. هكذا خدمة مجانية على حساب آلام الشعب وأوجاعه!!
أي نعم قد يكون مثل هكذا حديث يؤلم القلب ويحزن النفس ويدمع العين، لكنها الحقيقة المرة التي ينبغي أن تقف معها بجد وصدق وحزم.. ونحن نحتفي بالذكرى 54 لرحيل الاستعمار البغيض وذلك حتى لا نحمِّل الثورة والثوار أوزار كل تلك الفضلات النتنة التي ألْقِيَت ولا تزال تُلقى على ظهر المواطن.
فالثورة وأهدافها وقادتها الشرفاء أبرياء كل البراءة من كل تلك النتوءات والتشوهات التي تلت خروج الاستعمار.. كبراءة الذئب من دم يوسف.
ولكن كل ذلك يشي أننا لا زلنا في مرحلة من مراحل الصراع مع النصراني الحاقد وأبنائه الذين خلفهم بعد رحيله؛ فالحرب لم تضع أوزارها بعد وأهداف الثورة لم تتحقق كما خُطِّطَ لها.
ومع ذلك يظل تاريخ خروج الإنجليز بقوة السلاح ورضوخهم للمغادرة العسكرية من جنوبنا الحبيب بإصرار وعزيمة الرجال هدفاً سامياً من أهداف الثورة.. وتحققه يُعتبر نصراً يُحْسَبُ للثوار، وهو -بكل المقاييس- منجز كبير وهدف نبيل يحق لنا اليوم أن نحتفي ونعتز ونفخر به؛ لأنه تعمد بدماء الأبطال الشرفاء, وصُنِعَ بكفاح الرجال الأوفياء, وتحقق بعزيمة المجاهدين العظماء.
ولكن ما ينبغي أن نؤكد عليه في هذه المناسبة أنّ مشوار الثورة ونجاحها لا يُقاس بفترة زمنية محددة.. وإنما يُقاس بالظروف الذاتية والموضوعية التي تحيط بالثورة ذاتها، وبمدى صبر وعزيمة رافعي راية الثورة أنفسهم. وهذه هي طبيعة الثورات على امتداد مراحل التاريخ البشري؛ فتاريخ ثورات أوروبا وأمريكا الحديثة خير شاهد على ذلك، فهذا الاستقرار الذي تنعم به اليوم لم يتحقق إلا بعد عشرات القرون من الصراع بين الثوار وقوى الدولة العميقة والثورات المضادة, ولم يُنْتَزَعْ نصرهم المظفر ولم يحققوا حلمهم الموعود إلا بعد صراع مرير ومرير جداً مع قوى الثورة المحلية المضادة والتي هي أشد وأنكى من الاستعمار ذاته، ونحن اليوم لا نزال نعيش الصراع نفسه!! فصراعنا الحالي ليس مع المستعمر، وإنما مع أذناب المستعمر, مع الدولة العميقة التي تجذرت عروقها في عمق المجتمع؛ لهذا فهي بحاجة إلى صبر وعزيمة وإصرار حتى تُنْتَزِعَ تلك العروق ويتم قتل أبي لهب ذاته.
وبهذه المناسبة ينبغي لثوار اليوم استلهام دروس وعِبَرَ الماضي ليواصلوا مشوار مشعلي ثورتي سبتمبر أكتوبر حتى تتحقق أهدافهم التي عمَّدوا طريقها بدمائهم الزكية؛ فقوى الثورة المضادة اليوم تعمل جاهدة لتشويه صورة الثورة الحديثة لسبب بسيط؛ لأنهم امتداد لفلول الثورة المضادة الأم. وحتما سينتصر الحق, وسيشرق وجهه البسام، وهذه سنة الله في خلقه.
فنحن اليوم بحاجة إلى مواصلة مشوار قادة الثورة حتى يتم التخلص من أرجل العنكبوت الرخوة التي تعمل على تمزيق المجتمع، وتتحقق حرية الشعب.
وهكذا هو تاريخ الثورات على مدى تاريخ البشرية.. صعود وهبوط وانتكاسات وهزائم ونجاحات وإخفافات حتى ترسو سفينة الحق على شاطئ الأمان.