كريتر العتيقة..قِبلة الثائرين (مرتين وأكثر)
لقلم\ عفراء حريري
تتعدد المناطق في اليمن، وفي عدن، إلا أن كريتر تبقى محتفظة باسمها الأبدي عدن هالة من عظمة التاريخ بصهاريجها وقلعتها ومنارتها، وفيها بركة ولي الله العيدروس ومسجده ومعمار متميز لمساكنها القديمة وجبالها السمراء، بلون أهاليها الطيبين، وهي سيدة المدن العدنية الأخرى لكونها تحمل اسم المدينة القديم، متوجة على فوهة بركان خامد لم يثر بعد، وبين أحضان حواريها سكن الفن والعشق والقانون والعلم والحكمة، حضارة وعراقة وأصالة.
وبينما كنت أتجول في شوارعها الخاوية، متأملة جدران البيوت الحزينة والطرقات الدامية والجبال الغاضبة ووجه الناس التائهة بعد ١٥ ساعة من أصوات الرعب والبشاعة والحقد للأسلحة المتنوعة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، انتابتني رغبة عارمة على الصراخ وهي اليوم بين أقبح أعمال العنصرية والتخريب، التي أطلقوا عليها اسم الأعمال الإرهابية في حين أن كل الذي حدث هو فعل ورد فعل إرهابيين بدأوا معاً.
وقعت المدينة بطهرها ومكانتها تحت دنس الجميع بمن فيهم أبناؤها، وهم من ساعدوا على طمس هوية المدينة من أعالي الجبال وحتى ضفاف الشواطئ ببناء عشوائي مقيت، وكثيراً من المعالم تغيرت وغُلِّفت بطابع لا يمتّ لها بأي صلة، لذلك استمرت تلك الاشتباكات بين فترة وأخرى من أفعال الجماعات المسلحة الظالمة في تدنيس طهر المدينة واستباحت كل شيء فيها باسم الأمن ومكافحة الإرهاب ومناهضة الإصلاح وطرد الشرعية ومواجهة الانتقالي، أسماء معارك أنتم سميتموها ولا علاقة للمدينة وأهلها بها، غير أنها احتضنت مواقع سكنتموها جميعكم وكأن هذه المواقع هي الطريقة الوحيدة لإيقاع الظلم والذل والقهر بأهل هذه المدينة أمّ المساكين.
كريتر وشوارعها العتيقة وشيب الشعر على رؤوس شيوخها ونبرة الصوت العدني من نسائها والشطح البريء لشبابها وأنة شاباتها وجري الصغار بين ممر وآخر (زعطوط) في لعبة المطاردة بين القرود والأسود -كما سمعتهم يقولون- كلُّ هذا دفعني عنوة للبكاء والتوقف بين شارعين وابني متيبس في جلسته بصمت يربت كتفي، وشيخ يمر قائلاً: “قتلوها ويقتلوها كلَّ مرة، إلا أنها تأبى أن تموت وما بعد الدم إلا دم…”، رفعت وجهي تنهدت وسلمت وأومأت برأسي ومضى هو في طريقه.
بينما بقيت أنا أسمع أبوابها تحكي حكاية الصمود وأبنيتها القديمة شامخة لم تنحني برأسها والعواصف تحيط بها طبيعية وبشرية، على الرغم من أن الجميع تخلى عنها وخذلها وتركها بين فكي الارتزاق ولم يبقَ فيها إلا بقية من صمود أهلها وكأنها مدينة القدس.
إلا أن كريتر لا تستطيع أن تقول للعالم عن معاناتها وهي جزء من عدن وكل مدن عدن معاناة، بلى لا تستطيع عدن أن تشكو للعالم عن معاناة الأمرّين منذ (خروج بريطانيا) تشكو من ظلم من جاء ومن رحل ومن بقي الآن، أفعال تعسفية وظالمة ودنيئة، كلُّ زاوية في شوارعها حكاية مؤلمة والكثير الكثير من الأوجاع وأمل أصابه السكون ونضب.
فكل تشويه واعتقالات وظلم وقتل لأبنائها تتعرض له عدن محسوب على الجميع، وواجبكم نحوها ليس نحرها مرتين وأكثر وليس بيعها مرتين وأكثر وليس تدميرها مرتين وأكثر، ولا يتوقف على أنها احتضنتكم ورحبت بكم مرتين وأكثر، واجبكم نحوها يتوقف على مكانتها العريقة بين مدن العالم أجمع، فلا يوجد مؤرخ يذكر المدن العربية العتيقة ويتجاهل عدن أو ينسى عدن أو يتغاضى عن عدن، إن القلم المعتق الذي لا يكتب عن عدن قلم مشوه مرتزق، والبوصلة التي لا تشير إليها كقبلة مقدسة هي بوصلة مشبوهة ولن يغير تلك الحقيقة أي وثيقة إلا إن كانت وثيقة مزورة، إن كل صفحة في تاريخكم الملطخ بالدم -أيها القادة- سيذكر ما فعلتموه بكريتر وسائر مدن عدن، فهذا العالم على رغم صمته وعهر سياسته لا يستطيع أن يتجاهل عدن ويستمر في هذه الوضاعة من أجل المال الخليجي.
إن جذور هذه المدينة تضرب في أعماق قلوب وعقول مؤرخي بريطانيا والعرب وحركات التحرر والحرية والمساواة والعدل والخير من كل مدن العالم، إنها تسكن ليس في المتحف البريطاني أو غيره فقط، بل في قلب كل من عرفها حتى بالصور فعشقها تيهاً وولهاً.
إنها عدن وصمة العار التي ستلاحقكم جميعاً (شرعية وانتقالي) ومن سبقكم، إنها تسكن في أعماق قلبي وعقلي وأعماق وقلب ووجدان العديد من الشرفاء، في كل أنحاء الأرض.
كريتر بعض من قضية عدن المنسية، إنها القضية الإنسانية الأولى التي محال أن تُنسى.