المهرة والهويَّات الوافدة..قصَّة صراع ودفاع (تقرير)
متابعات- تقرير
كشف تقرير صادر عن مركز مالكوم ـ كير ـ كارنيغي للشرق الأوسط، عن إفرازات ما بعد المراحل الأولى من “عاصفة الحزم” التي انطلقت ضد اليمن في مارس 2015م، وآلت إلى ما يعتبره المراقبون مآلات غير متوقعة خرجت عن سياق الأهداف التي نشبت الحرب من أجلها، وأثر ذلك في مستوى العيش في محافظات وقعت تحت سيطرة التحالف وحكومة هادي ومنها محافظة المهرة الواقعة شرق البلاد، وهي المحافظة التي سيطرت عليها السعودية أواخر العام 2017، وما زالت تتواجد فيها إلى جانب قوات من أمريكا وبريطانيا.
وتحدث التقرير الصادر آنذاك عن تنافسات وصفها بالمحمومة بين الدول الثريّة على النفوذ في محافظات اليمن الجنوبية والشرقية إثر تعرض البلد للتمزيق بسبب الحرب، وهو ما أكدته تقارير مشابهة أشارت إلى انتقال ثلاثة ملايين شخص للعيش في مناطق آمنة، منهم ربع مليون شخص انتقلوا للسكن في المهرة منذ العام 2015، ما أدّى إلى ارتفاع عدد سكانها ليصبح 650 ألف نسمة، ما يعني أن تحولات ما بعد “عاصفة الحزم” انسحبت عكساً على غير ما ترغب به السعودية والإمارات،
إذ إن كثيراً من النازحين اندمجوا مع مجاميع محلية من أبناء المحافظات التي نزحوا إليها، وإن وجدت حالات طرد أو تهجير قسري، إلا أن الطابع العام هو تعايش سلمي واجتماعي بين اليمنيين، وهو ما أعاد إلى الأذهان مخاوف السعودية والإمارات من ثبات دعائم وحدة النسيج الاجتماعي اليمني، وبقاء الوحدة اليمنية خارج سياقات الحسابات التفاوضية، كون واحدية البد تفوّت فرص السيطرة عليه، بحسب محرر تقارير كارنيغي.
ورغم سيطرة السعودية على المهرة منذ نوفمبر 2017، وسيطرة الإمارات بنخبها العسكرية على مناطق واقعة على طول ساحل محافظة حضرموت المؤدّي إلى المهرة، إلا أن الهويات المهرية والسقطرية والحضرمية من جانب آخر، تخالفت مع توجهات قوى التحالف والقوى الموالية لها وتشكلت وفق مرجعياتها المحلية التاريخية، فاختارت الانتماء إلى اليمن أو جنوب اليمن أو الجنوب العربي، أياً كان المسمى؛ لكن الثابت هو أنها جميعاً اعتبرت انتماءها الجغرافي والتاريخي والوجودي إلى هذه الأرض بعيداً عن أجندة الأنظمة في السعودية والخليج، بحسب باحثين في الشأن اليمني.
في الغيضة، وهي المركز الإداري للمهرة، تشكلت ملامح حراك شعبي لأبناء المهرة في سبتمبر 2019، أسّسه قادة قبليون وشخصيات اجتماعية، مطالبين برحيل السعودية والإمارات وإعادة جميع المرافق الحيوية بما في ذلك المنافذ والمؤسسات الحكومية، وتسليمها إلى أبناء المهرة.
كان ذلك كله قبل أن تدخل بريطانيا في الخط، عبر إرسال جنودها في أغسطس 2021 بذريعة حماية السفن من هجمات إرهابية، على خلفية هجوم تعرضت له سفينة إسرائيلية في بحر العرب.
لم يسكت أبناء المهرة على هذه التدخلات، كونهم يخوضون صراع وجود مع ما يعدونه احتلالاً يهدد كيان المهرة أرضاً وإنساناً، ورفعوا أعلام اليمن قديمها وحديثها بما في ذلك العلم التاريخي لسلطنة المهرة في قشن وسقطرى، التي امتدت 500 عام، حتى سنة 1967؛ وقد رفعه المتظاهرون لتذكير التحالف الذي تقوده السعودية بهوية المهرة المستقلّة عن السعودية تماماً، كما قالوا.
وما تزال المهرة تشهد توترات، تقودها دائماً إلى استحضار ذِكر صنعاء الواقعة على بُعد 800 ميل منها، ولا سيما مع تعاطف كبير بين زعماء القبائل اليمنية في المهرة وزعمائها في صنعاء، وفي السياق ذاته أبدت الأوساط الاجتماعية المهرية ارتياحاً كبيراً لوقوف صنعاء مع مظلومية المهرة، من خلال تصريحات كان أبرزها لقائد حركة أنصار الله “الحوثيين” عبدالملك الحوثي، التي قال فيها إنه لا يمكن السكوت على ما ارتكبه التحالف ولا على تسهيله لقوى الاحتلال في أي منطقة في اليمن، مع إشارته إلى ما أسماها الخيارات المتاحة لمواجهة القوى المشتغلة لصالح نظامَي أمريكا وبريطانيا، في تلميح منه لمسألة دخول القوات البريطانية إلى جانب القوات الأمريكية والسعودية للمهرة، ومن المنطقي -بحسب المراقبين- أن يجد خطاب زعيم جماعة أنصار الله “الحوثيين” قبولاً في أوساط أبناء المهرة الذين يقولون إن حكومة هادي والمجلس الانتقالي والقوى الموالية للتحالف -فضلاً عن التحالف- خذلتهم، وتريد نهب خيرات محافظتهم وتركيعهم.
واعتبر ناشطون من أبناء المهرة أن إشارة زعيم جماعة أنصار الله “الحوثيين” في كلمته إلى قوى الاحتلال وتأكيده أنه لو جرى تفريط من طرف جماعته لكانت القواعد الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية في صنعاء ومختلف المحافظات؛ تحمل مؤشراً على مدى اكتمال الوعي الجمعي اليمني تجاه مخطط التحالف، مؤكدين على ما قاله زعيم الحوثيين من ضرورة ما وصفوه بالتحرك الصادق بروح ثورية وصولاً إلى النصر، الأمر الذي أخرج قوى التحالف وحكومة هادي والمكونات الأخرى عن طور التصالح مع الأصوات الثورية في حراك أبناء المهرة إلى طور التهديد وتبادل التحذيرات، خاصة مع احتفاء الأخيرين بتعهدات قوات صنعاء بتحرير كل شبر في اليمن واستعادة كل المناطق التي احتلها التحالف.
أما الأمر الأكثر إثارة لقلق التحالف والمكونات والقوى الموالية له، فهو -بحسب خبراء عسكريين- انفراط عقد الشراكة القتالية بين التحالف وأبناء المهرة، حيث كانت القوات السعودية جنّدت عقب دخولها المحافظة 6000 شخص من سكانها لكسب ولائهم، ولكنهم سرعان ما تولوا إلى ناشطين وثوار مواجهين لمشروعها الذي قالوا إنه تبدى لهم من خلال ممارسات الإقصاء والتهميش التي تسلكها المملكة في المنافذ والمواقع التي تحتلها في المحافظة، ومن ذلك -على سبيل المثال- أنه خلال فترة وجود “راجح باكريت” انتهجت السلطات المحلية في المهرة سياسات سعودية، من ضمنها شراء الولاءات، وتمكين السعوديين في كل مفاصل المحافظة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، لدرجة أنه تم رفع التعرفة الجمركية، وحظر حوالي 100 سلعة من دخول المحافظة، حيث يدّعي السعوديون أن عناصر من “الحوثيين” قد يستخدمونها لتصنيع الأسلحة، وهو ما أثار سخرية وسخطاً شعبياً واسعين.
وتبقى مسألة صراع الهويات في المهرة مسألة شائكة، إلى أن ترسو على بر الأمان، ولن يكون ذلك -كما قال ناشطون من حراك أبناء المهرة السلمي- إلا بتضحيات، ونوع هذه التضحيات يظل محل تساؤل وتأويل، ومصدر قلق ورعب للقوى المتواجدة هناك، حسب مراقبين، ذكَّروا بسياسة هادي والسعودية في المحافظة حين استولوا عليها، والتي كان من ضمنها إعطاء كل مجند مبلغ 400 دولار أمريكي لضمان ولائه، ولكن هذا كله ذهب أدراج الرياح، وعادت الأصوات المنادية برحيل العرب والإنجليز الوافدين تدوي بقوة، وتقول: إن المهرة ليست لمحتل عربي ولا لمحتل أجنبي، ما يعني أن أمام القوات السعودية والبريطانية وغيرها من القوات المتواجدة في المهرة ممانعة اجتماعية وثورية كبيرة ربما تباغتهم من المحافظة التي ظنوا أنها الأقل ممانعة كونها تقع أقصى شرق اليمن، ولكنها فاجأتهم ولفتت إليها الأنظار من كل محافظات اليمن.
باحثون مختصون في الشأن اليمني، أكدوا أن العداء التاريخي التقليدي السعودي تجاه اليمن تكشَّف بشكل واضح في المحافظات الجنوبية وأهمها المهرة عبر تعزيز الرياض تواجد قواتها فيها، وتكريس كل الأدوات وتسخير أكبر الإمكانيات لخدمة السيطرة على هذه المحافظة التي ظل الحُلم السعودي بمدّ أنبوب نفطي بحري فيها لتصدير نفطها وصولاً إلى بحر العرب لضمان تأمين خطوط نفط بديلة، حُلماً متجدِّداً وأتاح له “هادي” الفرصة، التي سرعان ما اصطدمت بمواقف رفض واسعة من قِبَل أبناء المهرة، ففي ديسمبر 2017 اقتلع أبناء المهرة العلامات الإسمنتية التي وضعتها القوات السعودية تمهيداً لمد أنبوب النفط، وتحركت قبائل المهرة إلى المكان الذي نُصبت فيه العلامات وطردت مدرعاتها، مُعلنةً بقاءها في المنطقة التي تبعد عن مركز مدينة المهرة 350 كيلومتراً، ولاقى حراك أبناء المهرة الرافض للتواجد السعودي -الذي يصفونه بالاحتلال- تعنُّتاً من قِبل الرياض التي اعتبرت المهرة غنيمة يجب عدم التفريط فيها، فهي المحافظة التي فتحت شهية الرياض فجأة على بحر العرب بموقعها الاستراتيجي، وفتحت عيون المحتل على مصراعيها ولكن المهريين رفضوا المشروع السعودي والاحتلال البريطاني وفتحوا أعينهم هم الآخرون بوعي جمعي كبير، كما قال الباحثون.
وفي السياق ذاته، كان تقرير صادر عن الكاتب السياسي “كانتان مولر” أكد أن القوات السعودية والإماراتية تنتهكان القانون الدولي الإنساني في محافظة المهرة وبقية محافظات الجنوب الواقعة تحتها، حيث تقوم بخطف وتعذيب مواطنين، ومد خطوط أنابيب نحو بحر العرب بدون مسوغ قانوني ولا مراعاة للأعراف الدولية، فكأنهم يعتبرون المهرة إحدى محافظات مملكتهم.. وإلى مثل ذلك أشار “فرانسوا فريزون روش”، الباحث بالمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي والمختص في اليمن، بالقول إنه مشروع قديم يجعل السعوديين يتجنبون نقل نفطهم عبر مضيق هرمز أو انطلاقاً من مضيق باب المندب في البحر الأحمر.
هذا كله ما حدا -بحسب مراقبين- بأبناء المهرة للحراك في مواجهة مشاريع سلب هويتهم، ناقلين تجديد “علي سالم الحريزي” -رئيس لجنة الاعتصام السلمي في المهرة- الدعوة لما يصفها دائماً بقوات الاحتلال للرحيل من المهرة، وتأكيده وقوف أبناء المهرة مع كل اليمن -كما قال- من صنعاء إلى الساحل ومن الجبل إلى الصحراء، معتبراً أن المهرة في خندق واحد لتحرير اليمن من الغزاة والمحتلين.
الوجود السعودي في المهرة قُوبِل ويقابَلُ كل يوم بحراك من أبناء المهرة، وإصرار على رفض المساومة على أرضهم وإنشاء ثكنات عسكرية ومعسكرات على شواطئ محافظتهم، التي تعهدوا أن يدافعوا عن هُويّتها مهما كان الثمن.
المصدر- وكالة عدن الإخبارية