خلفية إجراءات الرئيس قيس سعيد وحقيقة المواقف الدولية
خلفية إجراءات الرئيس قيس سعيد وحقيقة المواقف الدولية
صلاح الداودي
يتوقع الرئيس قيس سعيد منذ مدة استحالة أي تغيير سياسي وقانوني متعلق بالسلطات الدستورية العمومية المنتخبة وعلاقتها ببعضها البعض ويعرف أنه يفتقد إلى آلية دستورية واضحة؛ مِن أجلِ ذلك. ولذلك تحديدا كان على الدوام يبحث عن ظرف أَو سياق مناسب لإعادة طرح ما يراه مناسبا.، حَيثُ قام في الحقيقة دون أن يبرز حقيقة ما يفكر فيه بالشكل المطلوب، قام بالاعتماد على الفصل المفصلي في الدستور التونسي. الفصل الثمانون في الأصل فصل وجودي وفصل أمن قومي بامتيَاز في الحالات الاستثنائية حوله الرئيس إلى فصل “ثوري” لتعديل وتصحيح المسار الثوري وفق وجهة نظره. ففي خلفيته القانونية – الحقوقية والفكرية والسياسية يعتبر أن الشعب هو قوة وسلطة مؤسّسة (بكسر السين) أَو تأسيسية دائمة وعليا وهي نظرة فلسفية نتبناها منذ زمن بعيد بما في ذلك نشرها زمن قوس سنة 2011 وإنما برؤية أُخرى وضمن توجّـه سياسي آخر. وهو بهذا المعنى، أي الشعب، صاحب السيادة وصاحب “الثورة” إذَا شئنا. وبهذا المعنى فهو يرى أن الوضع العام الذي عليه الشعب التونسي هو وضع ثوري لا تنطبق عليه إلا حالة ثورية تأسيسية متجددة منذ سنة 2011. وعليه فهو يحايث تلك اللحظة ولا يفارقها ولا يعتمد على الفصل المذكور أعلاه إلا كمدخل سياسي – دستوري – استثنائي وليس بمقتضى دستورية هذا الفصل العادية أَو الطبيعية ويرفض توصيف ما يجري بالانقلاب ويذهب في تبرير ذلك إلى درجة اعتبار ضرورة بقاء مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائمة مُجَـرّد عبارة سياسية أَو حتى إنشائية. ولقد توضح ذلك أكثر عندما أصدر بلاغا خاصا بتعليق عمل بعض المؤسّسات والادارات والسلط وإعادة تنظيمها، يوم أمس زائد تجميد العمل النيابي، ما يعني بشكل واضح جِـدًّا أنه قام بتعليق الدستور تعليقا جزئيا ومؤقتا حتى تتسنى له إعادة تنظيم السلط العمومية وقد قال ذلك حرفيا حتى يتمكّن من تنفيذ بعض ما يريد وكأننا في سنة 2011 وفي شبه دستور مصغر من باب واحد كبير وروح واحدة ممتدة، يرفق بأوامر أَو مراسيم واتِّخاذ إجراءات وتدابير معينة. وهذا تماماً ما طرحناه وطلبناه منه سابقًا عبر الصحافة المكتوبة في مقاربات منشورة وبالاعتماد على تعليق العمل بالدستور وتفعيل ما تعطل منه في نفس الوقت للمرور إلى مراحل أُخرى ومن باب جزئية وحرفية الخطر الداهم – الواقع كما يقول وبهذه العبارة نفسها التي طرحناها هكذا سابقًا. وفي هذه الحالة طبعا لا فائدة من توصيف انقلاب بما أنه يعتبرها حالة ثورية في عقله الباطن وضمنا لا تصريحا وباعتبار أن التوصيف الفعلي هو خلع ومنع أَو نزع سلطة أَو تجريد بعض الهيئات والمؤسّسات الدستورية من سلطتها التي يراها غير شرعية وغير مشروعة أَو اما فاقدة للشرعية واما فاقدة للمشروعية. أما في خصوص الخطر فهو يتلخص في الحالة الوبائية وخطر الموت وفي حالة تفكك أَو انحلال الدولة وخطر انهيارها وتداعيات ذلك على الوطن والشعب وحقوقه وحياته. ولقد برهن على ذلك وهو يستعرض وجهة نظره أمام مجموعة من المنظمات الوطنية ولاحت ملامح نظرته قبل ذلك بيوم عندما نزل فجرا إلى وسط العاصمة وصرح بما يفيد مطالب الثورة ومهماتها والطريقة الدستورية والقانونية البديلة. وهذه هي في نهاية التحليل الخلفية الفعلية الخَاصَّة به، واما نقاش السياق والتوقيت ومدى جدية أَو نجاح ذلك من عدمه فبحث آخر.
هذه الذهنية هي التي سادت إذن طوال اليومين الماضيين كُـلّ ما قام به وكل ما صرح به الرئيس قيس سعيد. غير أن المناخ العام ليس بالضرورة مناسبا لتحويل أي لحظة وأي فرصة إلى مناسبة للتذكير بوجهة نظره المتعلقة بالنظام السياسي والانتخابي وهو لم يفوت لحظة نزوله إلى الشارع المذكورة لإعادة التأكيد على طريقة الحكم من القاعدة التي يكرّرها دائماً مرفوقة بجدل كبير ودون أن يقول صراحة كيف سوف يتم ذلك وما هي الآلية الديمقراطية التي تضمن الآراء الأُخرى المختلفة معه وتضمن عدم احتكاره وتفرده أَو فرضه لأمر واقع ما. نعم هو يسمي الإجراءات التي يعمل عليها قرارات ولكنها ليست في الواقع تغييرا وليست حلولا متفقا عليها ويمكن وصفها بالديمقراطية أَو النابعة من الشعب إلا إذَا وصفنا كُـلّ تهليل شعبي أَو كُـلّ ما يدور في ذهن فئة من الناس نتيجة الاحتقان الشديد والسخط الشديد على منظومة الحكم أَو الطبقة السياسية الحاكمة، وهو جزء منها، والناس حقا على حق ظلما وقهرا، إلا إذَا سمينا ذلك اذن إرادَة شعبيّة أَو تأييدا أَو حتى حقا ديمقراطيا روحيا ولكن ليس بمعنى الإجراء الديمقراطي النابع من وعي عام وإرادَة عامة وإنما كأهواء مؤيدين أَو موالاة قد يتم تحويلها إلى مُجَـرّد إجراء شكلي عن طريق الانتخاب أَو الاستفتاء يطلب منه تصديق الناس وموافقتهم على ما يريده الرئيس كما لو أنه كُـلّ ما يريده الشعب أَو كما لو كان ما يريده الشعب هو ما يريده الرئيس وهذا بداهة غير متطابق مع كُـلّ الواقع ومع كُـلّ الحقيقة فضلا عن الآراء الأُخرى والأُطروحات الأُخرى التي لم تناقش تماماً مثلها مثل رأي الرئيس لا في إطار حوار ولا في إطار اتّفاق على أسس جديدة للانتخاب أَو الاستفتاء.
أما فيما يتعلق بالتدخل الخارجي، ولنقل فقط بالمواقف الخارجية ولن نبحث هنا لا موقف روسيا ولا موقف الجزائر ولا غيرهما وإنما على وجه التحديد نذكر موقف كُـلّ من الولايات المتحدة والاتّحاد الأُورُوبي. هاهنا ظهر وتكثّـف خطاب الرئيس في لقاءات وتصريحات جديدة متتالية، يوم أمس شدّد وكرّر فيها كَثيراً عبارات من قبيل تشبثه بالتمشي الدستوري والعودة للسير الطبيعي والتأكيد على احترام الدستور وقوانين الدولة واحترام الحريات والحقوق ومن بينها الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية والحقوق الإنسانية والمدنية والمواطنية فضلا عن تراجعه في خصوص مسألة السلطة القضائية وقلقه الواضح فيما خص حرية الصحافة والإعلام وسوى ذلك مما يتعلق برجال الأعمال والمسؤولين الحاليين والسابقين والتأكيد على المصالحة مع الشعب (وهذا تأكيد آخر على خلفيته التي عرضناها) وعلى المحاسبة في إطار القانون وغير ذلك. ويفهم من كُـلّ ذلك أن ضغطا دوليًّا وقع من دول ومنظمات دولية وقوى وطنية محلية أَيْـضاً قلصت من حماسة الاندفاع وفرملت أي انزلاق وأراحت العمل العسكري والأمني وحتى الحركة الطبيعية للناس وتم إقناع الرئيس أَو اقتنع بنفسه هو ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة جميعاً بأنه لا فائدة من متاعب الفراغ ومتاعب الشارع والاستحالات أَو الاستعصاء السياسي والقانوني والمخاطرة بالمغامرات. وهب الجميع بسرعة إلى لغة التهدئة والعمل على استقرار الأوضاع واقناع المتحمسين من الشعب بالتريث والانتظار. وبدأ بعد التقييم والتقدير والتحليل من مختلف الأطراف الدولية، بدأ التبريد وإطلاق أفكار التطمينات والضمانات وانتهت حركة الرئيس إلى استعادة ما يراه مقامه الشعبي ومكانته في سبر الآراء وثقة أنصاره الذين كانوا في ضغط عليه لا فائدة في تفاصيله وَأَيْـضاً الغضب الشعبي العارم المحق من كُـلّ شيء، وأصبح ما قام به بعثرة للأوراق لتجاوز الانسداد ستثمر بعض الأمور البسيطة في الوقت الحاضر دون أن نتحدث عما هو أبعد وهو ممكن.
من المعلوم أنه يوجد نفور عند بعض الدول خَاصَّة الأُورُوبية، وسنستثني أَيْـضاً الجانب الإقليمي سواء المحور التركي – القطري وكذا المحور السعوديّ – الإماراتي – المصري فسياساتهما معروفة تقريبًا، نفور من هلامية نظرة الرئيس تعززت هذه الأيّام، إلا أن الاتّحاد الأُورُوبي وهذا مؤكّـد يريد نظاما رئاسيا معدلا في تونس وهو أمر يتطلب عدة ترتيبات إضافية يدركونها ويدرك الرئيس بل ويتفق معهم جزئيا في ذلك ولكن الأثمان والسياسات وهذه الترتيبات تتطلب وقتا إضافيا للتوضيح بالكامل وليس بالضرورة علنا. وهو ما يفسر النزوع إلى عدم المجاهرة الخارجية بالحكم القطعي على ما أراد الرئيس قيس سعيد فعله وإبراز نوع من الحياد الذي نعتقد أنه مزيف ونوع من عدم الانحياز الظاهر لا للرئيس ولا لرئيس البرلمان ورئيس الحكومة وذلك ينطبق لا على الأُورُوبيين فقط وإنما أَيْـضاً على أميركا، هذا بقطع النظر عن الاتصالات التي وقعت مع الجميع كما هو متوقع. في كُـلّ ذلك عادت لغة دعم تونس وتجربة تونس ومساعدة الشعب التونسي وإلى ما هنالك من أدبيات مزعومة في شبه إجماع دولي على الاستفادة من كُـلّ الأطراف المتصارعة في تونس؛ مِن أجلِ تونس المفيدة لهم حسب تصورهم هم وعدم حسم مشهد سياسي جديد والاكتفاء بضمان مصالحهم وضمان رعاياهم وضمان عدم خروج تونس عن النص المدرسي أَو عن مدرسة الديمقراطية الليبرالية الغربية الفاسدة المرفقة بسياسات التبعية والإرهاب والفساد والتطبيع… ريثما يكون الرئيس ويكون رئيس البرلمان ويكون لاعبون آخرون في جهوزية تامة لتقبل تبديل الأثواب وفق ما هو مطلوب.
لقد تم اختبار جميع الأطراف من الخارج واختبار جميع الأطراف في الداخل للمزاج الشعبي والمزاج الدولي. وتأكّـد مرة أُخرى أن منظومة الحكم المُستمرّة الآن لعشر سنوات تبقى مدانة وطنيا بالكامل فشلا وهلاكا والرئيس أَيْـضاً، غير المدان بجرائم، تبين أنه غير منزعج من الوعي السياسي المزيف الذي يحمل بعضه ويصدر بعضه للناس، وكذلك الوعي القانوني الزائف عُمُـومًا. وانكشف كونه سرعان ما اغتر بالهبة الدولية المحسوبة لمساعدة تونس لمواجهة وباء كورونا وكذلك بالمستجدات الإقليمية والدولية، وهاذان بحثان آخران أَيْـضاً. ومع كُـلّ ذلك، يبقى نظام الحكم والنظام السياسي والانتخابي مشكلا في تونس ولكن أهم من ذلك نظام القيادة ومنهج القيادة الوطنية السيادية وتوجّـهاتها وبرامجها. ربما يتوجب علينا الآن التفكير في ضرورة استكمال الهيئات الدستورية الضرورية وعلى رأسها المحكمة الدستورية المعطلة وكذلك تفعيل ما جاء في الدستور من حقوق للشعب في برامج محدّدة للتنفيذ وَأَيْـضاً عدم إغفال ضرورة إنجاز الانتخابات الجهوية والاقاليم والعود لملأ الفراغ حتى يتسنى ذلك.
نحن نعتقد أنه تم ويتم احتواء الموقف وتبريد الأمور من الخارج لضرورات لاحقة سنأتي عليها في وقتها وأهمها قمة الفرنكفونية التي ستنعقد في تونس بعد أشهر قليلة ومناورات الأسد الافريقي التي ستحتضنها تونس في السنة المقبلة في نسختها الثامنة عشرة.
من المؤكّـد ستخلف هذه الموجة نتف بعض الريش البسيط في جسد النهضة وآخرين معها حتى لا تكون حركة الرئيس عملية بيضاء، ولكن التغيير وليس مُجَـرّد الضغط لمحاسبة البعض بعيد حتى الآن ولن يتم إلا بواسطة الانتفاض لاحقا حالما يتم رفع حالة الحظر العام السياسي الذي ينفذه الرئيس بإجراءات جديدة خَاصَّة بالطوارئ وحظر الجولان وتعليق العمل في بعض المؤسّسات. وإننا نرى الجميع بصدد النزول من الشجرة وقد تعقدت الأمور أكثر بما فيها على الرئيس وقد تحمل انفراجا. صحيح أنه قادر بمقتضى طبعه على مزيد التصعيد ولكن لا جدوى من فرض ما يراه على الجميع. صحيح أن التنفيس سيقع ورفع نجاعة العمل الصحي ستقع ولكن للعودة للسير الطبيعي كلفة ولعدم العودة اكلاف.
إن كُـلّ ما يهمنا منذ البداية هو الدفع نحو ضرورات الإنقاذ الاقتصادي والمالي والاجتماعي وهذا ليس ممكنا الآن عند الرئيس، وأما الأفق السياسي السيادي فلا يجب أبدا أن ينفرد به. سيستمر الرئيس في محاولات إقناع الناس بوجهة نظره حول النظام السياسي وهذا كُـلّ ما يهمه بالدرجة الأولى إلى جانب وقف بعض الهدر والنزف. عدا ذلك لن يتوضح إلا خلال أشهر، وهاهنا على القوى المؤمنة بالعمل الثوري منذ عقود أن تجهز رؤيتها واستراتيجياتها لمجابهة أي محاولة لتمرير أي شيء مجدّدًا بالقوة ودون إرادَة فعلية من غالبية من لهم رأي آخر بآلية انتخابية أَو استفتاءية أَو بالفرض الفوقي، ولا نتحدث هنا عن العواطف الانتفاضية المحقة الراغبة في التخلص من النهضة ومن معها بأي حال وقد آن أوان وضع حَــدّ لتخريبهم المتواصل للبلد ودورهم في أذية وطننا وشعبنا وأمتنا.
الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي هو المضمون الوحيد الذي يمكن أن يوحدنا ومجلس الأمن القومي هو الحل في الوقت الحاضر. هذا ما نعتقده فعلاً. غير اننا نريد أَو نعاود التوضيح لاخوتنا في كُـلّ مكان من وطننا العربي وامتنا العربية والإسلامية بما في ذلك شعبنا هنا في تونس وأحرار العالم أَيْـضاً في الإنسانية جمعاء اننا في مأزق حقيقي وكبير في تونس ويجب التفكير فيه بجدية وعقلانية لا على طريقة جماهير ترامب الفاشية ولا على طريقة جماهير داعش الإرهابية بل على طريقة تقاليد وقيم وروح الجماهير الثائر الوطنية والوحدوية. إننا لسنا أمام ثورة، لا مدنية ولا عسكرية، ومع ذلك نستطيع التدارك ونستطيع أن نتصرف بشكل ثوري ونكف عن منطق القطيع الانتحاري بلا أي هدف مؤسّس على استراتيجية كفاح، وقتها يعرف الكل طريقه وطريقته وغايته ويتم تحويل الخطر الكبير الذي وضعنا فيه بارادتنا ودون إرادتنا إلى فرصة حقيقية للإنقاذ. إن من يتدخل في الداخل أَو الخارج لنزع سلطة ويدعي إعطاء ثورة يستطيع أن يتدخل لإجهاض ثورة ويدعي نزع سلطة وهذا ما وقع في 2011 وهذا ما يقع الآن.
هذا الالتباس وهذا الانحراف سيدمّـر تونس مستقبلا إذَا لم يتم تداركه شعبيا وبشكل سياسي منظم. ولهذا على الجميع أن يشغل عقله وساعده بوضع خارطة طريق الثلاثون يوماً المقبلة وما بعدها ويكف عن لعب دور جمهور الأبطال أَو جمهور الضحايا.
وختامًا، كُـلّ ما وقع في تونس من مآس طيلة عشر سنوات هو أصلا ناتج عن ادِّعاء ثوري مزور، حَيثُ لم ينشغل الناس باستكمال مهمات الحركة الثورية الذاتية الجزئية قبل أن يتم تجميدها وحرف مسارها والسطو عليها وتوجيهها من الخارج والداخل في غير مصلحة الوطن والشعب والأمة.