(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ…)
د. يوسف الحاضري*
جرت العادةُ أن ليالي أَيَّـام رمضان ليست كنهارها فيما يخُصُّ تجنُّب المحرَّمات وتجنب ما نهى الله عنه، فنسمعُ غالبًا من يقول: (لا يجوز وأنت صائم ولكن اصبر للَّيل) وَ(حرام تقوم بهذا العمل وأنت صائم ولكن اصبر لليل لما تفطر)، وغالبًا نُكِنُّها في أنفسنا ونتحدث معها أنه لا يجوز الآن ونؤجل هذا العمل المحرم لليل وهكذا… فلماذا وصلت الثقافة المجتمعية لأن تفصل فصلا تاما بين نهار رمضان وليله؟؟
منطلقاً من سعيه لإضلال الناس بشتى الطرق وبمختلف الوسائل مستخدما كُـلّ الأدوات الممكنة ومؤملا للإضلال الكامل وإن عجز فيسعى إلى 80 % وإن عجز يسعى إلى 50 % وإن عجز لا ييأس فيسعى إلى 30 % و20 % وإن عجز لا يترك بل يواصل حتى لو لم يكن هناك إلَّا 1 %، فهو يسعى إلى ذلك في مثابرة وصبر على الباطل وفي الباطل خطير جِـدًّا لا تجده عند كثير ممن يتحَرّك في الحق وبالحق في تضارب خطير جِـدًّا يستدعي منا جميعاً لتحَرّك أقوى وأوسع وأشمل وبدون أدنى توقُّفٍ أَو تهاون، ومن هذه التحَرّكات ما قام به الشيطان وأعوانه من شياطين الإنس والجن على مر الزمن في تحريف هدف الصيام وكيفية التعامل مع هذا الشهر حتى استطاعوا أن يصلوا إلى تعميق ثقافة خبيثة وخطيرة بأن شهر رمضان محصورٌ بصيام نهاره ومن بعد الإفطار يمكن للإنسان أن يعمل ما يريد، والبعض أَيْـضاً زاد أخذ له من الليل ساعة صلاة وساعة قراءة قرآن وأنتهى الأمر عنده، حتى أصبحت ثقافة مجتمعية لدرجة أن الشباب هذه الأيّام عندما يريد أن يقترف معصية أخلاقية فيستحي أن يقترفها نهاراً مؤجلاً لها لليل، خَاصَّة تلك الانحرافات التي تأتي ضمن حروب العدوان الناعمة والتي تستهدف الشباب والشابات فنرى مثلاً أسواقنا في النهار هناك التزام أخلاقي وحشمة إلى حَــدٍّ كبير ويتلاشى كُـلّ ذلك في ليل رمضان وكذلك عمليات التواصل والاتصال عبر الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي وكذلك عملية متابعة القنوات الفاسدة المفسدة وبرامجها خَاصَّة تلك التي تحرف الأسرة عن منزلتها السليمة وتقودها للانحراف الأخلاقي والديني وغيرها من أمور وأحداث نعرفها جميعاً، فهل بالفعل رمضان ليس إلَّا امتناع عن الأكل والشرب والمحرمات في النهار ثم يستباح لنا كُـلّ شيء ليلاً؟؟
شهرُ رمضان مثلُه مثلُ بقية الأشهر يحرم فيه ما يحرم في البقية، أما الحلال فيه فهناك استثناءات، فالمحرم في شوال وجماد ورجب وبقية الأشهر يبقى محرما في رمضان سواءٌ أكان ليلاً أَو نهاراً، أما المحلل لنا فتم استثناءُ الأكل والشرب والشهوات الأُخرى الحلال في النهار وبالتحديد (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأبيض مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ) أي امتنعوا عن هذه الأمور تعبدا لي خلال هذه الفترة الزمنية، وَأَيْـضاً حرم علينا الرفث إلى نسائنا (جماعهن) خلال الليل أَيْـضاً ثم عفا عنا في ذلك وأحلها في الليل فقط (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكُمْ) أي أن هذا الحلال كان أَيْـضاً محرماً في الليل وليس في النهار فقط أي كان محرماً طول شهر رمضان ليله ونهاره كما أنه حرم أَيْـضاً الرفث للنساء ليلاً وهم عاكفون في المساجد (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْـمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فانظروا كيف تحدث الله سبحانه وتعالى مشدّدًا على كيف حلل لنا أمورا كانت محرمة في ليل رمضان ثم كيف شدّد على إبقاء التحريم في موضوع الاعتكاف في ليل رمضان منهيا توجيهاته بقوله (تلك حدود الله فلا تقربوها) وهي في الأَسَاس حلالٌ زلالٌ فكيف سيكون تشديد الله وغضبه في أمور هي حرام في أشهر أُخرى وكيف سيكون تشديدها في هذا الشهر الذي حاله كما وضحه الله في هذه الآية!!
لم يكتفِ اللهُ سبحانَه وتعالى بتشديد التحريم والتخويف في ليالي رمضان بل أَيْـضاً وضع المحفزات والمرغبات لنا جميعاً لهذه الليالي، حَيثُ تكلم عن أعظم وقت في السنة كان ليلة من ليالي رمضان وهي (ليلة القدر) التي هي خير من ألف شهر وفيها يفصل كُـلّ أمر حكيم ولن يحوز على هذا الفضل إلَّا من كان عمله في الليل عظيم وبعده عن المحرمات أعظم وواضعا في حسبانه أن كُـلّ ليلة من ليالي رمضان هي ليلة القدر؛ لأَنَّ ما دون ذلك لن يحضا بها فليلة القدر ليست يانصيب (أنت وحضك) بل هي (أنت وهمتك وعملك) ما يعني أن ليالي رمضان أكثر أهميّة من نهار رمضان والذي غالبًا ما يحد من تحَرّك الإنسان (الجوع والعطش) عكس الليل الذي يستعيد الإنسان نشاطه وهمته وقوته ليواصل تعبده لله من خلال الأعمال الصالحة.
واعد اللهُ موسى أربعين ليلةً في تعبده له وفي تشريع الله التوراة على بني إسرائيل رحمة للناس، ما يعني أنها فترةُ الرحمة، وتم تكليف الأنبياء برسالاتهم في الليل أَيْـضاً، كما أن القرآن أنزل في ليلة مباركة وهي ليلة القدر ونجّى الله أَيْـضاً الأنبياء وأهليهم في الليل (وأسر بأهلك بقطع من الليل) ما يعني أن فترة الليل يجب أن يكون لها قدسية كبيرة جِـدًّا في تعبدنا لله وابتعادنا أكثر عن المعاصي في جميع أَيَّـام السنة (قُمِ الليلَ إلَّا قليلاً) وَ(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ..) وَ(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلً)، فكيف يجب علينا أن نتعامل معه في شهر له قدسية كبيرة جِـدًّا كشهر رمضان وفيه التحريم مغلظ ومشدّد على أمور هي حلال في أوقات أُخرى وفيها ليلة خير من 30 ألف يوم (ألف شهر) حتى نتعامل مع ليالي رمضان بفجور أكبر وبانغماس في المحرمات وبشكل أوسع وبشكل متعمد بل وبتلذذ وكأننا نَمُنُّ على الله أننا صمنا له النهار ولنا أن نعملَ في الليل ما نشاء، والله المستعان على ما تصفون.
* كاتب وباحث في الشئون الدينية والسياسية