حربُ البالستيات والمسيّرات.. ونهاية النموذج الصهيوني
تقرير/ عبدالقوي السباعي
يلاحِظُ المتابعُ العربي المتمعِنُ في سلسلة الأحداث، تزايُداً ملحوظاً لوتيرة الرسائل التي يتعمّد كيان العدوّ الصهيوني توجيهها في أكثر من اتّجاه، على خلفية إدراكه حجم التطوّر الكبير في قدرات محور المقاومة على مختلف الأصعدة، بدءاً من إيران ووُصُـولاً إلى حزب الله في لبنان وتعريجاً على فصائل المقاومة في فلسطين، وانتهاءً بالقدرات اليمنية المتضاعفة، ولا سيما أنها تأتي في ظلّ التحوّلات التي بدّدت رهانات العدوّ في أكثر من ساحة مواجهة، سواءٌ أكانت مباشرة أَو عبر وكلائه في المنطقة من خلال تنظيماتٍ وجماعاتٍ إرهابية أَو من خلال أنظمة التطبيع والانبطاح.
وتأتي هذه الرسائل في أعقاب توعد طهران بالردّ المناسب، وبالتوقيت المناسب على اغتيال رئيس مركز البحوث العلمية في وزارة الدفاع، الشهيد محسن فخري زاده، ومع أنها تهدف إلى تعزيز الردع من خلال إعلان نجاح تجارب صاروخية، إلا أنها تعكس حجم القلق والتخبط داخل مؤسّسة القرار الصهيوني، من تطوّر القدرات الصاروخية لدى أعدائها التقليديين، ودخولها مراحل جديدة مع أجيال الصواريخ الدقيقة والجوّالة والمسيّرات الهجومية الفتاكة، وهو ما يفرض على جيش العدوّ الصهيوني وحلفائه في المنطقة، رفع مستوى جهوزيته للتعامل مع هذا المستوى من التهديد على أنه بات حقيقةً قائمة.
وتندرجُ هذه الرسائل الخَاصَّة بكيان العدوّ في سياقين: استراتيجي وظرفي، الأول يهدف إلى الإيحاء بأن إسرائيل في الطريق إلى إنتاج قدرات دفاعية تحاكي المستوى الذي ظهر حتى الآن لدى محور المقاومة المتمثل في إيران وحلفائها بالمنطقة، والذي يخشى العدوّ الصهيوني من أن يتبعه ارتفاع في مستوى الجرأة على المبادرة العملية الميدانية من موقع الابتداء أَو الردّ، ما سيضعه أمام خيارات مفصلية، لذلك نجدهُ يُسارع إلى توطيد علاقته في المنطقة من خلال التطبيع العلني مع بعض دويلات الخليج والقرن الإفريقي، لتعزيز التواجد عن قُرب من مصادر الأخطار التي تهدّد أمن الكيان وتقلص من تفوقه، وتحت مبرّرات العلاقات التجارية وغيرها، وفي السياق الثاني، تحاول تل أبيب ثنيَ طهران عن الردّ، والقول لها إنها تستعدّ لمرحلة ما بعد الردّ بالردّ المتدحرج والذي ربما سيكون بالقُرب من مصادر التهديد، وفي هذا الإطار تحديداً، يندرج ما صدر عن وزارة الأمن في حكومة الكيان، حول نجاح سلسلة تجاربَ صاروخية غير مسبوقة وصفتها بالتاريخية، وبأنها مصمَّمة لمواجهة تهديدات متنوّعة عبر نظام متعدّد الطبقات ويُمثل استجابة لأحدث التهديدات الناشئة في المنطقة، وفق بيانها.
البيان الصهيوني ادّعى أن صواريخَه المعترِضة تمكّنت من اعتراض صواريخ جوالة عابرة وصواريخ كروز وطائرات بلا طيار ورشقة صواريخ دقيقة، واللافت في هذه التجارب أنها دائماً ما توصف بالناجحة والمفصلية، ولا استثناءات في هذا المجال إلا ما كان صارخاً ولا يمكن نفيُه، كفشلها حتى من اعتراض البالونات الغزاوية الحارقة كأقل تقدير، ومع ذلك فالمضيُّ بهذه التجارب وتباهي العدوّ بها أبلغ إقرار عملي بإخفاق رهانات واشنطن وتل أبيب على قطع الطريق أمام تعاظم هذا النوع من التهديدات، أَو منع وصوله إلى محور المقاومة.
في المقابل اعترفت صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية بالقول: “إن هذا الاختبار يأتي في أعقاب استخدام اليمنيون حلفاء إيران لصواريخ كروز وطائرات مسيّرة لمهاجمة منشآت بقيق النفطية السعودية قبل أكثر من عام”، كما تروي شخصياتٌ عسكرية صهيونية في مناسبة وبدون مناسبة “أن طهران أرسلت صواريخَ باليستية إلى حلفائها في العراق وسوريا وحزب الله فضلاً عن الطائرات بلا طيّار”.
الأمر الذي لطالما تؤكّـد عليه تقاريرُ صهيونية أُخرى، “لأهميّة ترسيخ قناعة الخبراء الإسرائيليين بأن تطوّر قدرات محور المقاومة سيتواصل في مسار تصاعدي كمّاً ونوعاً، ما يشكل تحدّياً استراتيجياً أكثر خطورة على الأمن القومي للكيان”، وهذا ما حذّرت منه “جيروزاليم بوست” بقولها إن: “مصفوفة التهديد تتغيّر، وبين أعداء اليوم إيران هي العدوّ الإقليمي الرئيس لإسرائيل بصواريخ وطائرات بلا طيّار معقّدة ومتعدّدة”، مع ذلك، يجد العدوّ نفسه ملزماً بالانكفاء إلى الدفاع لمواجهة مفاعيل هذا التطور؛ إدراكاً منه أنه فقد القدرة على إحباطه عبر خيارات استباقية واسعة، أَو على الأقل صار أكثر قناعة بأن الاستهدافات الموضعية هنا وهناك قد تكون قادرة على إبطاء أَو إرباك المسار التطوري، لكن لا رهان على مفاعيلها على المدى البعيد، وانطلاقاً مما تقدّم، تعمل حكومة الكيان من جهة على تعزيز نظامها الدفاعي المعقّد والمتعدّد الطبقات الذي يحاول أن يواكب تطوّر قدرات محور المقاومة، ومن جهة أُخرى تعقد الآمال بتحالفاتها الجديدة القديمة مع أنظمة الخليج ليكونوا رأس الحربة وساحة مواجهة في أي تصادم قادم، بعيدًا عن الساحة الجغرافية التي يسيطر عليها كيان العدوّ.
وهذا يعكس حجمَ التحوّل الاستراتيجي للعسكرية الصهيونية جرّاء تغيّر طبيعة التهديدات وحجمها ومداها الجغرافي، حَيثُ استحضرت صحيفة “جيروزاليم بوست” ما سمّته “النمطَ التاريخي للحرب الإسرائيلية” الذي كان أَسَاساً على الأرض ضدّ الأعداء على طول الحدود، من معارك الدبابات في الخمسينيات والستينيات إلى الانتفاضة عام 2000م، لتخلص إلى أن “الحرب اليوم لم تعد تتعلّق بمطاردة مقاتلين في المباني أَو باستخدام الدبابات، بل بمواجهة الصواريخ العالية التقنية والطائرات المسيّرة”، وأضافت الصحيفة: “التهديدات الحديثة ظهرت مع تخزين حزب الله 150 ألف صاروخ وقذيفة، فيما أظهرت الحربُ الأخيرة في القوقاز واليمن كيف يمكن للطائرات المسيّرة أن تُغيّرَ الحرب؛ ولهذا يريد الجميع في المنطقة الآن الصواريخ ومنظومات الدفاع الصاروخي”، مع ذلك، بدت الصحيفة أكثر تشكيكاً في فعالية هذه المنظومة لدى الاستحقاق العملياتي، فرأت أن “إسرائيل تمتلك أهم مجموعة نظام دفاعي عالي التقنية في تاريخ العالم، لكن السؤال، كما هو الحال دائماً، سيكون كيف تعمل هذه الأنظمة في سيناريوات حقيقية”؟، وبات الأمر جليًّا بعد الحادث الأخير الذي استطاع فيه شباب المقاومة الفلسطينية من إسقاط طائرة بدون طيار صهيونية، يوم أمس الأول، بواسطة المقلاع، وسقوط ثمانية صواريخ كاتيوشا على السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء بالعراق.
عُمُـومًا، فقد سبق تلك التجاربَ الصاروخية تسريبُ جيش العدوّ خطّة عسكرية لحرب مقبلة مع غزة، في ما يبدو أن الهدف منه الضغط على فصائل المقاومة ومحاولة تعزيز الردع الإسرائيلي عبر رفع المخاوف من تداعيات هذه الحرب، خَاصَّة أن التسريب تحدّث عن أن معركة مماثلة ستؤدي إلى مقتل ثلاثمئة فلسطيني يوميًّا، ما يعني أن الجيش عازم على ارتكاب مجازر مضاعفة بحق المدنيين عن الحروب السابقة، وممّا يلفت أن هذا التسريب يأتي في الوقت الذي يسود فيه هدوء ملحوظ في القطاع والمناطق المحيطة به، بل كانت تقديرات الأمن الإسرائيلي قد أفادت بأن احتمال التصعيد العسكري مع المقاومة الفلسطينية ضئيل جِـدًّا، خَاصَّة في ظلّ تواصل المحادثات بين الكيان وحركة حماس بوساطة مصرية حول تهدئة طويلة الأمد.
في كُـلّ الأحوال، وعلى ما يبدو واضحًا أن جيش العدوّ الصهيوني يتوقع الحرب الشاملة مع محور المقاومة في أية لحظة، لذلك يعمل على مختلف الاستراتيجيات، ومنها على سبيل المثال الحرب الناعمة أَو الفكرية، ويهدفُ في استراتيجية الحرب على الوعي التي يعتمدها، إلى تبديد التصوّرات التي عكسها أداؤه منذ حرب تموز 2006م، مُرورًا بالحروبِ المتعدّدة مع غزةَ، على أمل أن يتمكّنَ من تعزيز ردعه، لكنه يُقرّ باستمرار التعاظم في قدرات المقاومة في غزة ولبنان، كما يواصلُ مساعيَه لرفع مستوى استعداداته بما يتلاءم وَالتهديداتِ المتنوّعةَ والمتطوّرة والمتّسع نطاقها ليشمل ساحات محور المقاومة كافة، وُصُـولاً إلى اليمن، التي بدأها الكيان الصهيوني بالفعل منذُ وقتٍ مبكر من خلال الاشتراك المباشر وغير المباشر ضمن قوى تحالف العدوان على اليمن.