كل ما يجري من حولك

الحرب الصامتة.. كيف خذل الإعلام الأمريكي اليمن؟

الحرب الصامتة.. كيف خذل الإعلام الأمريكي اليمن؟

790

متابعات:

طيلة أربعة أعوام مضت، كانت دولة اليمن تمر بما يمكن أن يُسمى أسوأ أزمة إنسانية على الإطلاق. فمنذ أن اندلعت الحرب في 2015، قُتل 100 ألف شخص تقريباً وأصيب أكثر من ذلك بجروح خطيرة. 4,8 مليوناً يحتاجون إلى تأمين غذائي و400 ألف طفل يعاني من سوء التغذية. وكثير من المدنيين -منهم مليون شخص يعانون من الكوليرا- يموتون لأسباب يمكن الوقاية منها. كما أن 56 بالمائة من سكان اليمن لا يحصلون على لوازم الرعاية الطبية الأساسية، حيث مُنِع دخول الغذاء والدواء إلى البلد، بالإضافة إلى مليوني مدني مشردين داخلياً. كما تقدر الأمم المتحدة العدد الإجمالي للأفراد في اليمن -ممن هم بحاجة إلى المساعدة الإنسانية العاجلة- يبلغ 24 مليوناً. 

وعلى الرغم من هذه الفظائع والوحشيات التي تُرتكب في اليمن، إلا أن الإعلام الغربي بقي صامتاً نسبياً إزاء هذه المسألة. وفقاً لإحدى هيئات مراقبة وسائل الإعلام، بثت وسائل الإعلام الأمريكي الرئيسية تغطية تراكمية مدتها 92 دقيقة فقط منذ بداية الصراع. وهذا انخفاض صادم نظراً لحجم المجازر المرتكبة في البلد. 

إذا كانت الأزمة الإنسانية الشاملة تفشل في جذب اهتمام وسائل الإعلام هذه، إذن ما الذي تعتبره وسائل الأخبار الأمريكية خبراً يستحق الاهتمام؟! بحسب تقرير تيندول، قامت معظم وسائل الإعلام الأمريكي بتغطية مجموعة من الأحداث في 2018 مثل الاستماع لعدالة كافانا (426 دقيقة)، التدخل المزعوم في الانتخابات الروسية (332 دقيقة)، وحرائق الغابات في كاليفورنيا (242 دقيقة). من يوليو 2017 إلى يوليو 2018 كانت هي الفترة التي لم تغط فيها (إم إس إن بي سي) أخبار اليمن على الإطلاق، وكان هناك 455 قصة متعلقة فقط بستورمي دانييلز. 

وبينما يتم تجاهل اليمن تماماً، تحصل الصراعات الدولية الأخرى مثل الصراع في سوريا على تغطية واسعة. وهذا أمر غريب، لأن الصراعين في سوريا واليمن يوجد بينهما الكثير من الأشياء المتشابهة. كانت كلتا الأزمتين ناجمة عن ثورات الربيع العربي. وسرعان ما تحولت هذه الثورات إلى حرب بالوكالة، حيث دعمت الدول النافذة والقوية الجماعات المتناحرة من خلالها. وكلا البلدين قد استقبل ملايين المدنيين الذين نزحوا داخلياً والكثير ممن هم بحاجة إلى مساعدة إنسانية. ورغم ذلك التشابه في الأوضاع -وفقاً لبيانات تقرير تيندول- إلا أنه خُصص 666 دقيقة من أجل تغطية الصراع في سوريا منذ 2015، أي أكثر من سبعة أضعاف المرات بالنسبة لليمن. لماذا؟ الإجابة على ذلك تعود إلى طبيعة الروايات التي ستنطرق إليها في الأسطر التالية. 

بالنسبة للأمريكان، قصة سوريا بسيطة. فقد كانت داعش هي العدو الواضح الذي شارك في عدة هجمات على المدنيين الأمريكيين وأقدم على تنفيذ إعدامات همجية بحق مدنيين. وكذلك هناك الأسد الذي انتهك القانون الدولي بتورطه في هجمات الغاز على مواطنيه. وكلا هذين اللاعبين يجعلان من السهل قراءة صراع دولي معقد بشكل لا يصدق كمعركة بسيطة: معركة الخير ضد الشر. كما يبرر أيضاً التدخل الأمريكي في سوريا. 

أما رواية أو قصة اليمن فمن الصعب قصها على الجمهور الأمريكي. فصراع اليمن معقد، كونه لا يقدم أي عدو مريح للأمريكان كي يحتقرونه بسهولة دون أن يعزوا إلى أنفسهم التورط مع هذا العدو. ومن الصعب أيضاً بالنسبة لأمريكا أن تبرر تدخلها هناك. بينما تدعم الولايات المتحدة التحالف السعودي في اليمن، من الصعب فهم السبب. لدى السعودية قوة عسكرية واسعة، وهي مسؤولة عن حصيلة مرتفعة من القتلى المدنيين، وقد ارتكبت قائمة كبيرة من جرائم الحرب في الصراع. وفي المقابل لم يقتل المتمردون الحوثيون- على عكس داعش في سوريا- مواطناً أمريكياً واحداً. وعلى الرغم من أن الحوثيين مشاركون في عدة انتهاكات لحقوق الإنسان، لا يزال من الصعب تفسير سبب ذلك القصف السعودي بالسلاح الأمريكي للمستشفيات ومرافق الخدمات العامة والمدنيين. 

من الصعب على الإعلام أن يحكي عن القنابل الأمريكية التي تستخدم لقتل الأطفال. وبشكل أساسي، لا تريد وسائل الإعلام الأمريكي أن تزعج المشاهدين الأمريكيين الوطنيين بعلاقة أمريكا الكارثية المستمرة مع بلد مثل السعودية. فمن الأفضل بالنسبة لها أن تتجاهل وضع اليمن كلياً. 

سيكون من الخطأ القول بأن الإعلام الأمريكي لا ينبه أبداً الجمهور أو يعارض انتهاكات القانون الدولي من قبل السعودية. عندما قتل الصحفي جمال خاشقجي على يد الحكومة السعودية بسبب انتقاده لولي العهد محمد بن سلمان كان هناك غضب إعلامي شامل. سجل تقرير تيندول هذه القصة أنها تمت في تغطية لمدة 116 دقيقة. لكن هذا يقودنا إلى التساؤل: لماذا يخطف مقتل صحفي واحد الأسبقية والأولوية على عدد القتلى الهائل في اليمن؟!

ناقش إدوارد هيرمان ونعوم تشومسكي في عملهما المشترك “مانيوفاكتشورينغ كونسينت” ميل الإعلام للتمييز بين “الضحايا الجديرين بالاهتمام والضحايا غير الجديرين بالاهتمام”: إذا كان الضحايا ينسجمون مع رواية سياسية خاصة فسوف يتلقون اهتماماً من الإعلام، في حين أن الضحايا الذين تم انتهاك حقوقهم من قبل إعلام حكومتهم أو حلفائها يتم إهمالهم بشكل عام. خاشقجي كان ضحية “جديرة بالاهتمام”: على الرغم من أن السعودية هي حليفة للولايات المتحدة، كان خاشقجي عضواً في دائرة الإعلام الأمريكي، وهذا الأمر كان يعني أن هذا الموت كان مسألة شخصية. إذا كانت وسائل الإعلام جادة فعلاً في كشف الجرائم السعودية كانت ستستدعي أيضاً انتقاد الحكومة السعودية على تسببها في حصيلة القتلى المدنيين المرعبة في اليمن. ومع ذلك لم تستطع حصيلة قتلى اليمن أن تخدم أي رواية سياسية مغرية. اليمن فقيرة ولا تشكل قطعة قيمة على الأرضية الجيو سياسية، حتى أنها لا تضيف الكثير لأزمة اللجوء الدولية!

عقبة أخرى تقف أمام تغطية الإعلام للوضع في اليمن، وهي العقبة السياسية. على الرغم من أن التعاون طويل الأمد يمكن بين “فوكس نيوز” والحزب الجمهوري قد يفسر تردد الشبكة في إظهار إخفاقات السياسة الخارجية للإدارة الحالية، فإن الشبكات الأخرى صامتة بنفس القدر، بسبب تثبيت الولايات المتحدة المربح على عبثية دونالد ترامب. منذ انتخابات 2016 كان الإعلام متحمساً اقتصادياً لتقديم تغطية سلبية عن دونالد ترامب. وقد شهدت الشبكات والأشخاص الذين حولوا تركيزهم إلى تحليل مواقف الرئيس شهدوا ارتفاعاً كبيراً في التصنيفات. وهذه هي الطريقة التي قامت بها (إم إس إن بي سي) لتتغلب على “فوكس نيوز” للمرة الأولى منذ 17 عاماً كوسيلة الأخبار الأولى في أمريكا وقد أصبحت تشكل صوت المقاومة الرئيسي للإدارة الحالية. 

لسوء الحظ، كان تحول الإعلام مضراً بالنسبة لليمن. لأن (إم إس إن بي سي) تبني سمعتها وخلاصة القول، من خلال مقاومة رئاسة ترامب، فهي تعقد ما تقوم بتغطيته. لا يستطيعون توظيف الدعم السعودي في اليمن كتنقيب سياسي ضد ترامب، رغم سماحه بتوسع الانتهاكات السعودية ونقضه لمشروعي قرار من الحزبين. وبدون لوم إدارة أوباما التي دشنت المشاركة الأمريكية في التحالف في 2015 سيُعتبر انتقاد ترامب على اليمن أن (إم إس إن بي سي) ليست موضوعية، حيث سيكون من النفاق الشديد انتقاد الرئيس على تصعيد سياسة بدأت في ظل السياسة السابقة. 

(إم إس إن بي سي) بالمثل اختارت ألا تغطي انتشار الكوليرا في اليمن طوال العام 2017. بدلاً من ذلك، قدمت تغطية واسعة: 36 مقالاً مميزاً، واحد عن الغارات الجوية لترامب في مدينة يكلا اليمنية. هذه الغارة أدت إلى موت فتاة أمريكية في الثامنة من عمرها، و14 يمنياً غير مقاتل. تم تناول هذه القصة المأساوية كخطوة خاطئة للرئيس ترامب -فشل قائد وزعيم. وفي نفس السنة، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين، كان هناك 676,5 غارة جوية في اليمن في الستة الأشهر الأولى فقط. وكل ذلك لم يتم تناوله في وسائل الإعلام الرسمية. أصبحت الأخبار تستحق الاهتمام فقط حين قُتل مواطنان أمريكيان. 

استنفد الإعلام الأمريكي معظم طاقته في تغطية المؤامرات السياسية الداخلية: الفساد المحتمل وأعضاء الحكومة غير المناسبين، وطبعاً جريمة ضد الدولة. هذه قصص مهمة. وفي المقابل وقعت مأساوية شعب اليمن على جانب الطريق لصالح هذه القطع الإخبارية المثيرة. 

إن انعدام التغطية المنصفة الشاملة للوضع في اليمن يتركنا مع تساؤلات كثيرة حول: أين تكمن الأولويات الحقيقية للإعلام؟ هل تراقب شركات الإعلام الكبرى في أمريكا الحكومات الأكثر قوة في العالم؟ هل يسعون وراء الكشف عن الظلم العالمي ويستجيبون له من أجل مصلحتهم؟ أم أنهم لا شك ينتظرون بعض التأثير المباشر على المواطنين الأمريكيين؟ وماذا يقال إذن عن حالة الإعلام عندما يتوقف الفحش الأخلاقي عن كونه خبراً قيماً وذا أهمية؟!

(تريومف كيرينز – ذا ميكجيل إنترناشونال ريفيو)

You might also like