في الذكرى الأولى لرحيل الشهيد الدكتور محمد عبدالملك المتوكل
د. أحمد صالح النهمي..
لا أعرفُ سياسياً يمنياً خلال العقدين الماضيين استطاع أن يُثريَ الحياةَ السياسية اليمنية المعاصرة، ويؤثر في الوعي السياسي للجيل الحاضر من أبناء الشعب اليمني، ويثير جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والثقافية، كالشهيد الدكتور محمد عبدالملك المتوكل رحمه الله وطيب ثراه، ولعل ذلك يعود من وجهة نظري إلى أمرين أساسيين:
أحدهما يتعلق بطبيعة القضايا التي أثارتها أفكارُه وطروحاته السياسية، وما امتازت به من توفيق بين العمق في الطرح المدرك لطبيعة الموروث الثقافي والسياسي للمجتمع اليمني والتحولات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية من حوله من جهة، وبين الشجاعة في التعبير عن مواقف الجماهير المحكومة، والصدق في إسداء النصيحة للنخب الحاكمة من جهة أخرى، وهي تتناول الشأن السياسي المسكوت عنه، وتلامس أشد الملفات حساسية وأَكْثَرها إزعاجاً للنخبة الحاكمة، مثل قضية التوريث، وقضية الجمْع بين الثروة والسلطة، وقضية احتكار الوظائف العليا في الدولة وحصرها على أبناء النخبة الحاكمة، وغير ذلك من القضايا.
وأما الأمر الثاني فيتعلق بالشريحة الاجتماعية الواسعة التي استطاع الشهيد الدكتور المتوكل أن يستهدفها، ويوصل أفكاره إليها، فلم يقتصر في طرح أفكاره ــ كبعض الأكاديميين ــ على محاضراته التي كان يلقيها على طلاب قسم العلوم السياسية بكلية التجارة والاقتصاد بجامعة صنعاء، ولكنه استطاع أن يوصل صوته إلى كثير من المثقفين والقراء والمتابعين للشأن السياسي خارج الحرم الجامعي من خلال المنتديات الثقافية والفنية والكيانات السياسية والمنظمات المدنية التي عمل على تأسيس كثير منها وقيادتها، ومن خلال المشاركة الواسعة في المؤتمرات والندوات العامة داخل الوطن وخارجه، فضلاً عن مقالاته الصحفية وحواراته السياسية التي امتلأت بها القنوات الفضائية، والصحف اليومية والأسبوعية.
عارض الدكتور المتوكل سلطة نظام صالح وهي في قمة قوتها وتماسكها، وكتب الكثير من المقالات الناقدة، بيد أنه كان ينطلق في نقده ومعارضته من منطلقات موضوعية تحرص على مصلحة الوطن وإصلاح الأخطاء وتقويم التجربة، وأذكر أنه كتب سلسلة مقالات في صحيفة الشورى الأسبوعية الصادرة عن اتحاد القوى الشعبية ينصح فيها الرئيس صالح بالتخلي عن السلطة، وعدم ترشيح نفسه مرة أخرى في 2006م، لكي يدخل التأريخ من أوسع أبوابه كزعيم عربي تنازل عن السلطة طوعياً في أوج قوته وحضوره السياسي، وحذره كَثيْراً من عواقب استمراره في الإمساك بالسلطة، فيما كان كَثيْرٌ من مثقفي السلطة ونخبُها السياسية يزيّنون له الاستمرار في قيادة البلاد ويشجعونه على ترشيح نفسه للرئاسة وإمكانية خلع العداد إن استدعى الأمر ذلك، وكان الكثيرُ من مثقفي المعارضة ونخبها السياسية يمارسون دورَ الازدواجية الانتهازية في مواقفهم السياسية التي تسعى إلى الجمْع بين امتيازات السلطة وشرَف المعارضة في الوقت نفسه، ومَن يتصدون منهم لانتقاد السلطة، فيتدثرون في كتاباتهم الناقدة باللغة المراوغة والصور المجازية التي تحتملُ أَكْثَر من معنى وتنفتح على أَكْثَر من دلالة.
ومثلما اختلف الشهيد المتوكل مع نظام صالح، فقد اختلف أيضاً مع القوى التي انحرفت بثورة الشباب في 2011م عن مسارها الصحيح، وتبعاً لذلك فقد حرصت هذه القوى وتلك على تبنّي حملة دعائية استهدفت شخصية الرجل وحاولت النيل منه.
لقد كان من الطبيعي أن يختلفَ الدكتور المتوكل مع القوى التي سرقت ثورة الشباب ويتقاطع معها فكراً وسلوكاً ووسيلةً وغايةً، فالثورة في فكر المتوكل تنطلق من أجل قضية وليس ضد أشخاص، وذلك يعني أن لا يكون هدفُ الثورة هو العداء والكراهية لهذا الشخص أو ذاك، وإنما هدف الثورة هو تحقيق قضية تتعلق بالمصلحة العامة، فهو يرى أن هذا التحديد الواضح يجعل الثوار يتفادون استبدال أشخاص بأشخاص وحسب، وإنما استبدال نظام فاسد متخلف بنظام صالح متطور. وإلا فقد يأتون بأشخاص يمتلكون نفس الثقافة، ويمارسون نفس الممارسة، وإذا بهم يقلعون “بُصلي” ويغرسون “ثومي” وكأننا يا بدر لا سرنا ولا جينا.
إن أقصى ما يستطيع أن يقدمه كاتبٌ في مساحة مقالٍ كهذا، هو أن يرسلَ ومضةً خاطفةً عن بعض مواقف الشهيد الدكتور المتوكل، متمنياً أن تصاحبَ ذكرى استشهاده الأولى فعاليات فكرية وسياسية تليقُ بالإرث الفكري والسياسي الذي خلّفه لنا الشهيدُ في مواقفه وكتاباته.