كل ما يجري من حولك

فكر المجاهد وروحيته (4): الإخلاص وإيثار الآخرة والبصيرة

755

 

حمود الأهنومي

 

ثامناً: يخلص له الدين

وجد المسلمون بعد انتصاهم في معركة بدر في الجرحى الأُصَيرِم ـ عمرو بن ثابت ـ وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فاستغربوا، وقالوا له: ما الذي جاء بك، أحَدَبٌ على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنتُ بالله ورسوله، ثم قاتلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (هو من أهل الجنة)، قالوا: ولم يصل صلاة واحدة. ووجدوا في الجرحي أيضا قُزْمَان ـ وكان قد قاتل قتال الأبطال؛ قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين ـ وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر، وبشره المسلمون بما أعد الله له من الجنة، لكنه ردّ عليهم قائلاً: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ إذا ذكر له (إنه من أهل النار)[1].

إن فارقَ ما بين الرجلين هو فارق النية المخلصة، فذاك هداه الله للإيمان بما قدمه من أعمال سوية، فذهب إلى ربه كريماً مبشَّراً بالجنة، وهذا ورغم أنه أثخن في الأعداء لكن كانت نيته أن يقاتل من أجل الأحساب، ولم يقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فختم نفسه بالانتحار، واعتدى على حرمة الله، فذهب جهاده وحياته أدراج الرياح، نعوذ بالله من سوء الخاتمة ونسأله صلاح النيات.

المجاهد الحق المخلص يدرك أهمية تصحيح نيته في تحركه الجهادي، وأنه يجب أن يتخلى عن كل النوازع الشيطانية التي تناقض سمو الجهاد وغايته المقدسة، فلا يطلب من جهاده علوا ولا فسادا، ولا دنيا، ولا سمعة ولا شهرة، بل يجب أن تكون كل حركاته ومواقفه ابتغاء وجه الله، ويراقب فيها وجهه تعالى؛ ذلك أنه باع نفسه من الله وحده، ولا يجوز أن يشرك معه أحدا دونه، والله لا يقبل عملا مدخولا مغشوشا، أفسدته نية سيئة، وعبِث به مقصدٌ خبيث؛ يقول الله تعالى: (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) غافر65، (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة5.

إنه الجهاد في سبيل الله، وأي جهاد في سبيل الهوى أو سبيل الشيطان، أو سبيل طاغوت، أو سبيل النفس الأمارة بالسوء، أو سبيل الشهرة والسمعة، أو سبيل أن يشار إليه ويقال فعل وفعل، فإنه ليس سبيلا لله، بل هو سبيل النفس الأمارة بالسوء وحظِّها التعيس، وسيرمى بأعمال من شأنه كذلك مهما عظمت في وجهه.

لهذا فالمجاهد الحق يصحِّح نيته من أول يوم لتكون مستجيبة لداعي الله، سالكة به في منهج الله الذي ارتضاه لعباده المجاهدين؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ولإقامة الحق، وإزهاق الباطل، وردع المعتدين، وكف بأسهم، وتحقيق الأمة التي يريدها الله تبارك وتعالى.

تاسعاً: يطلب الآخرة

(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) الأنعام32

يتحرك المجاهد لإصلاح أمور الدين والدنيا، ويريد أن تتحقق كرامة الله لعباده على هذه الأرض، وهو حين يتحرك ذلك التحرك فليس من منطلق أنه مأزوم نفسيا ويريد الانتحار والتخلص، كلا بل من منطلق الجهاد لأجل عمارة الحياة الدنيا بما يريده الله لعباده من سعادة ورقي وكرامة واستقامة على الفطرة، إن هذا الذي يريد أن يبقى في الدنيا ليستكثر فيها من الصالحات والطاعات، لكن قد تقتضي منه الطاعات أن يسلك طريق التضحية وإمكانية أن يكون فيها شهيدا، فيبيع من الله نفسه التي هي في الأساس ملك له، إن الله أمرنا أن نصلح أمور دنيانا على النحو الذي يرضاه وبينه في منهجه، لكن هذه الدنيا لا تساوي شيئا عند الله وبالمقارنة بالآخرة، والمجاهد مستعد لأن يضحي بهذه الحياة القصيرة الفانية لكي يورث السعادة والعدالة والكرامة لسواه من الناس، لكي يهيئ الفرصة لمن سواه من المسلمين ليحصلوا على المجتمع والأمة التي يريدها الله تعالى، الدنيا في مفهوم المجاهد حين يضعها في مقارنة الآخرة تصبح لا شيء، تصبح حينئذ دار امتحان وبلاء، ودار ممر لا دار مقر، مدتها قليلة وهي ضئيلة فانية، وخاتمتها الحتمية الموت، سواء جاهد الإنسان أم لم يجاهد، لهذا يرفض المجاهد الارتهان لهذه العاجلة وملذاتها فيبيع نفسه رخيصة من الله مولاه، في سبيل أن يظفر بالآخرة، التي أهلها (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) الفرقان24.

يجب أن نعمل في الدنيا خيرا، وحينئذ يكون لها قيمتها الإيجابية ومعيارها الحق، باعتبار أن المؤمن فيها يتخذها مزرعة للآخرة، لكنها مع ذلك بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئا، يصورها القرآن تصويرا بليغا ورائعا، يقول تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) الحديد20.

المجاهد يثق أن هذه الدنيا دار تخلية قد يغلب فيها أهل الباطل يوما، وقد يسود فيها الكفر حينا، ولهذا أعد الله للمعاندين لأوامره والمنتهكين لحدوده الخلودَ في العذاب الأليم، وبما أن الدنيا دار تكليف، والجهاد نوع عظيم من هذا التكليف، فإن الله كلّفنا به، لأنه خير الطرق وأقربها إلى رضوانه، وعند مقايسة الدنيا بالآخرة تصبح الدنيا لا شيء، فالجنة دار عظيمة لا ينالها إلا المتقون المجاهدون الصابرون، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) آل عمران142، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) البقرة214.

إذن يدرك المجاهد أنه في الدنيا إنما يسعى لتحصيل رضوان الله بأن يبقى دائما في حالة جهاد مع الأعداء المختلفين، بدءاً بنفسه الأمارة بالسوء إلى الأعداء المحاربين، وأنه لا نجاة له من عذاب الله، ولا فوز برضا الله إلا بالالتزام بجميع أوامر الله وتجنب معاصيه، ولو أدى ذلك إلى ذهابه عن هذه الحياة الدنيا؛ لأنه بما أنه عقَد عقْدَ بيع لنفسه مع الله، فمن مقتضيات هذا البيع أن يُسْلِمَ نفسه له في أي لحظة يريدها مولاها ومشتريها العظيم الكريم.

عاشراً: البصيرة البصيرة ثم الجهاد

حركةُ المجاهد حركة واعية ومستبصرة، وتتحرك بحسب مقاييس الدين ومواصفات الإسلام في الطريق التي اختطها الله، إنها (سبيل الله)، ومن لا يتحرك في هذا السبيل تحرّك في سبيل الشيطان أو الهوى أو العصبية، لهذا يجب أن يُلِمّ المجاهد بأهدافِ جهاده، يدرك لماذا يقاتل هؤلاء، ولماذا يتحرك في الميدان ضدهم، ولو على سبيل الإجمال، وقف الإمام زيد خطيباً في ذلك النفر الذين نصروه، يثقِّفهم وينمي وعيهم الجهادي، قائلاً:…عباد الله لا تقاتلوا عدوكم على الشك فتضلوا عن سبيل الله، ولكن البصيرة البصيرة ثم القتال، فإن اللهَ يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حق، إنه من قتل نفسا يشك في ضلالتها كمن قتل نفسا بغير حق”[2].

لو بحث كثيرٌ من المقاتلين ولا سيما المرتزِقة منهم خلف حيثيات مواقفهم القتالية لوجدوا أنهم في حقيقة الأمر يقاتلون في سبيل الطغاة والظالمين ومشاريع الاستكبار العالمية، وأنهم وقود في المعركة الخاطئة.

هذا لا يعني أن يجمّد الرجل نشاطَه الجهادي حتى يتحصل له علمُ اليقين رأي العين، بل عليه أن يبحث هل يمضي مشروعَه تحت راية هدى، أم تحت راية ضلالة وطاغوت واستكبار، وعلى المجاهدين أن يساعدوا بعضهم بعضاً في تنمية وعيهم الديني والجهادي والثقافي، وكل ذلك جهاد وخير يؤتي الله عليه أجراً كبيراً.

[1] سيرة ابن هشام.

[2] الإمام زيد، مجموع رسائله.

You might also like