هل زيارة البشير المفاجئة لدمشق لها علاقة بالمظاهرات في السودان..؟!
متابعات:
تَشهَد العَديد مِن المُدُن السودانيّة “انتِفاضات” شعبيّة كانَ “المُفَجِّر” الرئيسيّ لها تَدهور الظُّروف المَعيشيّة، والغَلاء الفاحِش، وارتِفاع أسعار الخُبز والسِّلَع الأساسيّة، ولكن لا يُمكِن عزلها في الوقت نفسه عَن سُوءِ الإدارة والفَساد الذي يَعُم البِلاد والسِّياسات والتَّحالُفات الخارجيّة التي تتْبَعها السُّلُطات بقِيادَة الرئيس عمر البشير، وكِبار وزرائِه ومُساعِديه.
عِندما اختارَ الرئيس البشير قَطْع عِلاقاته مَع إيران، والانضِمام إلى التحالف الذي تَقودُه السعوديّة والإمارات في حَرب اليمن كان يتَوقَّع تحقيق ثلاثَة أهداف رئيسيّة:
الأوّل: رَفع الحِصار الأمريكيّ بشَقّيه الاقتصاديّ والسياسيّ المَفروض على دولة السودان بسبب وضْعِها على لائِحَة الإرهاب الأمريكيّة، ولكِنَّ الرَّفع جاءَ جُزئيًّا، وتُهمَة الإرهاب استَمرَّت، وكذلِك وجوده على قائِمتها دُونَ تَغيير.
الثّاني: افتَرض الرئيس البشير مُخْطِئًا، أنّ الدول الخليجيّة المُتورِّطة في حرب اليمن ستُقَدِّم مِليارات الدُّولارات على شَكلِ مِنحٍ ومُساعداتٍ وقُروض مُيسَّرة، واستِثمارات تُؤدِّي إلى إنقاذِ البِلاد مِن أزماتِها الاقتصاديّة، وتُوقِف انهِيار عُملتها الوطنيّة، ولكن هذا الافتِراض الطَّموح والمَنطقيّ لم يَكُن في مَكانِه، فما حصل عليه السودان مِن مُساعدات ماليّة مِن السعوديّة والإمارات وقطر كانَ الفُتات بالمُقارَنة مع 50 مِليار دولار تدفَّقت على خزينة جارِه الشماليّ (مِصر)، ودُونَ مُشارَكة الأخيرة في حَربِ اليَمن.
الثّالث: تَوقَّع الرئيس البشير أنّه بِمُجرَّد الخُروج مِن محور المُقاومة، وقطع العلاقات مع إيران، ستتوقَّف مُلاحقات محكمة الجِنايات الدوليّة له، الأمر الذي لم يَحدُث مُطلَقًا، ولا نَعتقِد أنّ هَذهِ المُلاحَقات ستَتوقَّف في المُستَقبل المَنظور.
***
زِيارَة الرئيس البشير المُفاجِئة إلى دِمشق في الأُسبوع الماضِي، ولقاؤه بالرئيس السوريّ بشار الأسد، باعتبارِه أوّل رئيس عربيّ يُقدِم على هَذهِ الخطوة، جاءَت مُتأخِّرةً حتْمًا، وليسَ لها أي علاقة بالمُظاهرات والاضْطِرابات التي تَعُم السودان حاليًّا، بل لا نُبالِغ إذا قُلنا أنّها رُبّما خفَّفَت مِن حدّتها، بطَريقةٍ أو بأُخرَى، لأنّ الشعب السودانيّ في غالبيّته يَكُن الكَثير مِن الوِد لسورية وشَعبِها، وعَبَّر عَن هذا الحُب بالتَّماهِي مع حُكومته التي فتَحت أبوابها أمام عشَرات الآلاف مِن اللاجئين السوريين، رُغم ظُروف البِلاد الاقتصاديّة الصَّعبة، والرِّعاية والحَنان اللذين وجدهما اللاجئون السوريون في السودان لم يحظوا بمِثْلها في الدول الخليجيّة التي تُقاتِل قوّات سودانيّة خاصّة تحت راياتِها في حرب اليمن، وهِي الدول التي أغلَقَت أبوابها كُلِّيًّا في وَجهِ هؤلاء، والاستِثْناء الوَحيد كانَ للأثْرِياء جِدًّا مِنهُم فقَط.
يأسْ الرئيس البشير مِن حُلفائِه الخليجيين الجُدد هو الذي دفَعه للتَّوجُّه إلى كُل مِن موسكو وأنقرة، وإعادَة ترميم عِلاقاته مع مِحوَره القَديم، بَحْثًا عَن حُلولٍ لأزماتِ بِلاده الاقتصاديّة، ولكن هذا التَّوجُّه، خاصَّةً نحو تركيا وبالتَّالي قطر، أعطى نتائِج عكسيّة في نَظرِ الكَثيرين، خاصَّةً في المِحوَر السعوديّ الإماراتي، ولولا حاجَة هذا المِحور الماسّة للقُوّات السودانيّة التي تُقاتِل في اليمن، وتَقِف في الخُطوط الأماميّة، لبادَر بطَردِها من التحالف على غِرار نَظيرَتها القَطريّة.
المُقرَّبون مِن السُّلطات السوريّة الذين تَحدَّثنا معهم لاسْتِطلاع ما يجْرِي في الكواليس مِن تَفسيراتٍ لزيارة الرئيس البشير للعاصِمة السوريّة، وما إذا كان يحمل رسائل إلى الرئيس الأسد مِن قِيادات دول مِثل السعوديّة، وتركيا وقَطر، أكَّدوا أنّ القِيادة السوريّة كانت “مُتحَفِّظةً” في استقبالِه، بعد تَرَدُّد تقارير إخباريّة عَن اتِّصالات سريّة تطبيعيّة بين الخرطوم وتل أبيب رُبّما تتكلَّل بزيارةٍ رسميّةٍ لبِنيامين نِتنياهو للخرطوم كمَحطَّةٍ ثانية له بعد مسقط، وهِي التَّقارير والأنباء التي نفَتْها السُّلطات السودانيّة كُلِّيًّا.
الأهَم مِن ذلِك ما لفت نَظر هَذهِ السُّلطات (السوريّة) مِن أنّ بعض العرب يُريدون الحَجيج إلى دِمشق لتَبريرِ تقارُبِهم مع دولة الاحتِلال الإسرائيليّ والتَّطبيع معها، مِثلما هو حال دولة البحرين، وسلطنة عُمان، ودولة الإمارات العربيّة المتحدة، التي زارَ وزراء خارجيّتها دِمشق مُؤخَّرًا، أو عانَقوا وزير الخارجيّة السوريّ بحَرارةٍ (البحرين)، والشَّيء نفسه يُقَال أيضًا عَن الجُهود المُكثَّفة حاليًّا لإعادَة سورية إلى جامعة عربيّة “مُطَبِّعة” مع إسرائيل، ولَعِبَت دَوْرًا كَبيرًا في “تشريع” التَّدخُّل العَسكريّ الأمريكيّ الغَربيّ والعَربيّ فيها، ناهِيك عَن تَجميدِ عُضويّتها.
***
استِخدام القَبضة الحديديّة مَن قبل قُوّات الأمن السودانيّة لتَفريقِ المُتظاهِرين، وقتل تسعة أشخاص حتّى كِتابَة هَذهِ السُّطور، رُبّما يُعطِي نتائِج عكسيّة تَمامًا، لأنّ ما يُميّز هَذهِ الانتِفاضة السودانيّة عَن غَيرِها مِن الانتِفاضات أو “الثَّورات” الأُخرَى، أنّها جمَعَت بين مَطْلَبين مُهِمَّين: الأوّل: رغيف الخُبز الذي باتَ عَزيزًا، وغير مُتَوفِّر، والثّاني: الحُريّة وحُقوق الإنسان، واجْتِثاث الفَساد مِن جُذورِه.
الرئيس البشير واجَه انتِفاضات عديدة طِوال الثَّلاثين عامًا مِن عُمُرِه في السُّلطة، وتنَقَّل بين المَحاوِر العربيّة والأفريقيّة، بَل والغربيّة أيضًا في إطارِ تحقيق هدفه الأوّل، أيّ البَقاء في السُّلطة، ولكنّ التَّحدِّي الحاليّ يبدو مُخْتَلِفًا عَن كُل التَّحدِّيات السَّابِقة، لأنّه يَقِف وحده بعد أن تَخلَّى عنْهُ مُعظَم الحُلَفاء.
لا ننْفِي مُطلقًا النظريّة التي تقول بأنّ السودان يُواجِه مُؤامَرات عَناوينها الرئيسيّة زعزعة أمنه واستقراره وتفتيته، ولكِنَّ السُّؤال الأبْرَز الذي يتَردَّد على ألسِنَةِ الكَثيرين داخِل السودان وخارِجه، هو عَن عدم التَّبَصُّر بهَذهِ المُؤامَرات مُسْبَقًا، والتَّحَرُّك مُبْكَرًا بالإقدامِ على تَطبيقِ الحُلول والإصلاحات الضَّروريّة التي يُطالِب بِها الشَّعب، والحَيلولة بالتَّالي لنُزولِه إلى الشَّارِع في احتِجاجات الغَضَب التي نَراهَا حاليًّا؟
نَتْرُك الإجابَة للرئيس السوداني والمُتَحَدِّثين باسْمِه، ولا نُخفِي تَمنِّياتِنا بالاستِقرار والأمَان في هذا البَلد العربيّ الشَّقيق الذي وَقَف في حَقباتٍ عَديدةٍ مِن تاريخِه في خَنْدقِ أُمَّتِه وقضاياها المَصيريّة، وجَرى استِهدافُه بالقَصْفَين الأمريكيّ والإسرائيليّ أكثَر مِن مَرَّةٍ لهَذهِ الأسباب، ولكنّ مَطالِب الشَّعب المَشروعة في الحُريّة والعَيشِ الكَريم يَجِب أنْ تَكون الأوْلَويَّة.
رأي اليوم – عبدالباري عطوان