بين انقلاب 64 وأزمة 2018: ولي العهد باقٍ ما بَقِي المَلِك
ينخرط الملك سلمان ونجله محمد في عملية «دفاعية» تستهدف تحصين البيت الداخلي السعودي بمواجهة «عاصفة خاشقجي». وهي عملية تقوم، بالدرجة الأولى، على إعادة ولي العهد إلى مظلّة التقاليد الحاكمة في المملكة منذ عقود، أقلّه حتى تنقضي الأزمة المحيقة بالرياض. على أن هذه الاستراتيجية تستبطن مخاطر على مشروع «السلمنة»، وقد تفتح الباب ــــ إذا لم يسعف الوقتُ الملك ــــ على صراع جديد على السلطة، سيكون الثاني من نوعه بعد صراع فيصل ـــ سعود في ستينيات القرن الماضي
في مثل هذه الأيام من عام 1964 (تشرين الثاني/ نوفمبر)، اعتلى فيصل بن عبد العزيز، الابن الثالث للملك المؤسّس، سدّة العرش في السعودية، بعد صراع «مرير» على السلطة مع أخيه غير الشقيق، سعود. صراعٌ كان أشبه بانقلاب مستطيل (امتدّ عمره من 1958 حتى 1964) لم يسبق للمملكة أن شهدت مثيلاً له في تاريخها، ليصبح لاحقاً نموذجاً يُقاس عليه، وتُستقرأ من خلاله الحوادث في تلك البقعة من شبه الجزيرة العربية. هذا النموذج يستحضره الكثيرون اليوم في مقاربة الأزمة التي تعصف بالسعودية على خلفية مقتل مواطنها، الصحافي جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في اسطنبول. وهو استحضار لا يخلو من وجاهة على اعتبار أن ثمة نقاطاً مشتركة عديدة ما بين السياقَين، إلا أن هناك أيضاً فوارق لا يمكن إغفالها تصعّب مهمّة الإسقاط على المقارِنين. صحيح أن ولي العهد الحالي، محمد بن سلمان، تبدو عليه علامات الضعف التي وسمت حكم سعود في آخر أيامه، لكن الأمير الشاب يسانده أب مخضرم هو مَن يقود راهناً عملية ترميم العهد الجديد، فيما لا يزال ابن سلمان نفسه يحوز أوراق قوة غير قليلة. ومع ذلك، فإن الأب لن يدوم، ومحاولاته تظهير الوحدة العائلية بمواجهة «عاصفة خاشقجي» تفتح الباب أمام منافسين لطالما شغلوا عقل نجله، ويسكنهم حقد على الأخير. ومن هنا، يبدو هيكل السلطة في المملكة أمام احتمالات شتّى لن تنحسم في غضون فترة وجيزة، ما لم يستعجل الملك اتخاذ قرار دراماتيكي، سيكون الإقدام عليه في هذه المرحلة صعباً ومحفوفاً بالمخاطر.
لم يستغرق الملك سلمان، البالغ من العمر 83 سنة، وقتاً طويلاً ليستشعر أهمية العودة بنجله السادس إلى منظومة التقاليد الحاكمة في المملكة منذ عشرات العقود، والتي عمد ابن سلمان ــــ حتى قبيل اعتلائه سدّة ولاية العهد ــــ إلى ضربها. لا جدال في أن ما أقدم عليه الأمير الشاب، وخصوصاً في الشقّ المتّصل بالتعامل مع الأجنحة المنافِسة للجناح «السلماني»، كان بتزكية من والده، لكن إعادة تفعيل المنظومة المشار إليها تبدو المظلّة الوحيدة التي يمكن الاحتماء تحتها في خضمّ الأزمة، لا النهج التصحيحي المفترض الذي يروّج له بعض الإعلام الغربي ويتلقّفه الإعلام العربي. بتعبير آخر، يريد سلمان تحصين المستقبل السياسي لابنه الأثير، بعدما تلقّى الأخير ضربات موجعة في أكثر من ملفّ. توازياً مع اشتغاله على استقطاب الأمراء الذين كان ولي العهد قد أقصاهم من دائرة السلطة، بدأ الملك مساراً داخلياً قائماً على تظهير صورة الالتفاف الشعبي حول العهد الجديد. هكذا، اصطحب ابنه في جولة محلية هي الأولى من نوعها، أخذتهما الأسبوع الماضي نحو منطقة القصيم (وسط نجد)، التي وصفها سلطان بن عبد العزيز يوماً بأنها «قلب المملكة»، مُدلِّلاً على أهميتها بالنسبة إلى النظام بأن والده كان «لا يزورها يوماً، بل يمكث فيها شهراً كاملاً». وإلى جانب القصيم، زار الملك ونجله منطقة حائل، على أن يحطّا الأسبوع المقبل في المناطق الشمالية من المملكة، بعد أن يكون سلمان قد ألقى خطابه السنوي أمام مجلس الشورى والمنتظر الاثنين القادم.
اللافت في تلك الجولة هو حجم المشاريع «التنموية» التي أُعلن عنها، والتي بلغت قيمتها في القصيم أكثر من 16 مليار ريال، وفي حائل 7 مليارات، في وقت تمّ فيه التوجيه بإعفاء السجناء المعسرين (غير القادرين على سداد ديونهم). توجيهات يُقرأ فيها سعي السلطات إلى حيازة رضى رعاياها في هذا التوقيت الحرج، الذي يمكن أن تتكاثر فيه منافذ «التمرد»، وهو ما كان قد بدأ أواخر الشهر الماضي مع الإعلان عن إعادة صرف العلاوة السنوية لموظفي الدولة اعتباراً من مطلع العام المقبل. هذه المشهدية استكملها ابن سلمان بسلسلة خطوات تبدو بعيدة عن مقتضيات «رؤيته» ومعالم شخصيته. قبل أيام، ودونما مناسبة، أصدر ولي العهد توجيهات «عاجلة» بترميم وتأهيل 130 مسجداً تاريخياً في المملكة، بتكلفة هي الأكبر منذ انطلاق برنامج إعمار المساجد التاريخية عام 1997. وبالتوازي مع ذلك، كثّف ابن سلمان من لقاءاته العامة، وخصوصاً مع الشرائح التي يمكن أن يحدث الاحتكاك بها صدىً إعلامياً، كأقارب قتلى القوات الأمنية والعسكرية السعودية، والذين اجتمع بهم الثلاثاء الماضي، مُلقِياً فيهم خطاباً عاطفياً غلبت عليه عبارات التضامن واللُّحمة، كقوله: «نحن في الواقع جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى».
سُجّلت لابن سلمان أخيراً خطوات بعيدة عن مقتضيات «رؤيته» ومعالم شخصيته
كلها مواقف وقرارات تعيد إلى الأذهان ما أقدم عليه سعود لدى اشتداد التنازع على السلطة بينه وبين فيصل. لم يتأخّر الابن الثاني لعبد العزيز في الاشتغال على استمالة القبائل والمؤسسة الدينية. بدءاً من توزيع «المكرمات» على مشايخ البدو وصرف مساعدات للفقراء والمرضى، مروراً بتعمير المساجد والمشاركة في غسل الكعبة، وصولاً إلى شقّ الطرق وتمديد أنابيب المياه… حاول سعود بشتّى السبل تعزيز موقعه بوجه أخيه، مستعيناً عليه أيضاً بِمَن عُرفوا بـ«الأمراء الإصلاحيين» الذين وعدهم بإصلاحات لم تجد طريقها إلى التنفيذ. كان سعود، حينذاك، قد بلغ مبلغاً من الضعف، بعدما منحت سياساته، فيصل، فرصة الانقضاض عليه، وخصوصاً أن البلاد دخلت في عهده أزمة مالية واضطرابات جراء التبذير، وانخفاض عوائد النفط، واندلاع الاحتجاجات العمالية في المنطقة الشرقية. لعلّ هذا الضعف هو ما يجمع بينه وبين ابن سلمان، الذي يجد نفسه مضطراً إلى التراجع والمداهنة وطأطأة الرأس، لكن الفارق أن من «يرشد» الأمير الشاب اليوم هو والده الذي تبدو تكتيكاته ــــ إلى الآن ــــ مدروسة ومحسوبة، خلافاً لسعود الذي كان يضرب خبط عشواء. كما أن منافسي ولي العهد الحالي ليسوا بالقوة نفسها التي حازها فيصل، بعدما تولّى ولاية العهد ونيابة رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية دفعة واحدة، عمل على أثرها على استقطاب مناوئي أخيه وتحشيدهم في وجهه.
بناءً على ما تقدم، يظلّ ما يدور في السعودية اليوم محصوراً في دائرة تحصين البيت الداخلي، منعاً لـ«خراب الهيكل» برمّته. لكن الاستراتيجية «الدفاعية» التي يقودها الملك تنطوي على مخاطر تتهدّد مشروع «السلمنة» الذي تمّ الاشتغال عليه منذ سنوات. لا يستطيع سلمان في الظرف الحالي الإقدام على توريث نجله العرش ما لم يمنح المنافسين «جوائز ترضية»، الأمر الذي من شأنه تزكية عوامل الصراع، على اعتبار أن هؤلاء ستصبح في أيديهم أوراق قوة تمكنهم المحاربة بها. أما إذا آثر الانتظار، فإن ابن سلمان قد يفيق يوماً ولا يجد المُلك في يده، ولا المَلك إلى جانبه، وعندها قد تكون السعودية أمام نسخة جديدة من صراع سعود ــــ فيصل، لن تكون بعيدة عن التأثيرات الخارجية، وخصوصاً أن التجارب ــــ في الحالة السعودية ــــ تثبت أن الرعاة الغربيين لا يتردّدون في نفض أيديهم في «اللحظة المناسبة».
*الأخبار| دعاء السويدان