كل ما يجري من حولك

تحوُّلاتٌ وتحديات في ضوء السابع من أكتوبر: تقييم مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي

37

متابعات..| تقرير*

لا شكّ أن السابع من أكتوبر أحدث هزّة عميقة في مفهوم الأمن القومي الصهيوني، نتيجة الفشل الأمني والاستخباراتي الذي مُني به جيش الاحتلال، والذي كبّده خسائر ضخمة على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، بصورة باتت إعادة النظر بأصل المفهوم وتكييفه مع التحولات أمر لا بدّ منه، لا سيما بعد مرور سنة وحوالي 5 أشهر على اندلاع الحرب.

وقد حظي هذا المفهوم باهتمام واسعٍ من قبل الباحثين والقادة الصهاينة في الآونة الأخيرة، الذين بادروا إلى طرح الرؤى والتوجهات والتوصيات التي من شأنها معالجة الثغرات وضبطها وفق المتغيرات التي تشهدها المنطقة كما وطرق التعامل مع التحديات الجديدة والمستقبلية.

وقد تعدّدت التوجهات والآراء؛ فهناك من ركّز على المستوى العملياتي واستثمار الموارد الضخمة اللازمة لتعزيز جيش الاحتلال في مواجهة التحديات المستقبلية، وهناك قسم آخر ركّز على ضبط مفهوم الأمن وتكييفه وفق التطورات الحالية، مع التركيز على ثغرات الردع تجاه الجهات غير الحكومية.

ورأى آخرون أن التركيز الأساسي يجب أن ينصبّ على تحسين عمليات صنع القرار على المستوى السياسي فيما يخص استراتيجيات الأمن، فيما أوعز البعض الآخر بأن المشكلة هي في غياب مفهوم أمني رسمي محدّث ما يصعّب عملية تطوير المفهوم بما يتناسب مع التطورات، كما أن هناك من نادى بضرورة الضربة الوقائية.

واعتبر عدد من الباحثين الصهاينة أن الهجوم الذي وقع في السابع من أكتوبر 2023، والمعروف بـ «طوفان الأقصى»، كشف عن إخفاقات كبيرة في تطبيق مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وبحسب «إيدو هيشت»، الباحث في مركز بيغن والسادات للدراسات الاستراتيجية، أنّه «خلافاً لادّعاءات الكثيرين، فإن مفهوم الأمن القومي لم ينهار في السابع من أكتوبر كونه يرتكز على حقائق جوهرية نابعة من الوضع الطبيعي للكيان، إنّما تطبيق المفهوم الذي طورته قوات الدفاع الإسرائيلية وأجهزة الاستخبارات تدريجياً على مدى العقود الثلاثة الماضية، هو الذي انهار بالفعل».

وكان مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير «يوفيد» قد نشر دراسة حول الموضوع تحت عنوان «الأمن القومي الصهيوني بعد طوفان الأقصى»، الذي تمّ الاستفادة منه في كتابة هذا المقال.

فشل تنفيذ المفهوم

على مدار ثلاثة عقود، أقرّ العديد من القادة الصهاينة بتغيّر الواقع الأمني بشكل جوهري، ما جعل المفهوم الأمني التقليدي غير ذي جدوى، وأدّى إلى ضرورة ابتكار مفهوم أمني جديد يتناسب مع الظروف المستجدة. وترافق هذا مع تدهور القوة العسكرية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، نتيجة عدة عوامل، أبرزها عدم التوازن بين الاستثمارات العسكرية واتخاذ القرارات، فضلاً عن الانقسام الواضح بين القيادة السياسية والعسكرية.

ونتيجة لهذه التحديات، قرّر جيش الاحتلال تقليص بعض القدرات العسكرية القديمة بحجة تلاشي بعض التهديدات وظهور قدرات تكنولوجية جديدة يمكن أن تحل محل القدرات التقليدية. هذا التحول تزامن مع نشوء فجوة بين التهديدات المتوقعة وطبيعة الحروب الفعلية، حيث تبنّى الجيش الإسرائيلي نظريات جديدة مثل «نهاية عصر الحروب عالية الكثافة»، مما دفع إلى تغييرات في أساليب القتال وتركيز القوة العسكرية على التهديدات غير النظامية بدلاً من الحروب النظامية.

كما أسهم ذلك في تقليص حجم القوات البرية، وزيادة الاعتماد على المشاة مع تقليص الأسلحة الثقيلة مثل الدبابات والمدافع المضادة للطائرات. في الوقت نفسه، ظهرت فجوات في فهم سلسلة القيادة داخل جيش الاحتلال لطبيعة المهام الموكلة إلى القوات، وتمّ التّخلي عن مبدأ التوازن بين الدعم الخارجي والاعتماد على الذات، ما أدى إلى تقييد حرية التصرف.

كما عانى الجيش من نقص حاد في الوحدات القتالية والإمدادات الأساسية مثل الذخيرة وقطع الغيار، وهو ما أثّر على جاهزيته. إضافة إلى ذلك، تم تقديس التقدم التكنولوجي على حساب التدريب المكثف والعدد الكافي من القوات المدربة، مع الاعتماد على الوسائل الحديثة بأعداد محدودة.

هذا التوجه جعل الجيش الإسرائيلي يتجنب المبادرة إلى عمليات كبرى، وتم بناء نظام دفاعي غير مرن لمواجهة التهديدات غير المنضبطة، وهو ما شكل خطأً مهنياً، حيث لم يُؤخذ في الاعتبار التطور المحتمل للتهديدات. هذا بالإضافة إلى أن الاعتماد الكبير على الخارج في تأمين الدعم والتسليح أضاف بعداً إضافياً من القصور إلى الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية.

ما سبق جعل الأحداث، صباح السابع من أكتوبر، بمثابة مفاجأة شكلّت صدمة للمؤسستين العسكرية والأمنية حول قدرة حركة «حماس» على تنفيذ هجومها في التوقيت الذي اختارته والذي كانت نتيجته، تعرّض ركائز الأمن القومي الإسرائيلي لعدة إخفاقات، أبرزها الفشل الاستخباراتي والأمني الذي تسبب في مباغتة قوية، وأزمة الاقتصادية أسفرت عن تراجع في المرونة الاجتماعية والاقتصادية، هذا بالإضافة إلى العجز في الحسم السريع والفشل في نقل المعركة إلى أراضي العدو، الأمر الذي أدّى إلى أزمة ثقة عميقة بين الجمهور ومؤسسات الكيان لا سيما الجيش، وإثبات أن التعديلات الحديثة على مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي لم تكن كافية لمواجهة التحديات الجديدة.

  • (أ ف ب)
    (أ ف ب)

التحديات المستقبلية والتدابير المضادة

في الآونة الأخيرة، واجه الكيان الصهيوني مجموعة من التحديات المتزايدة التي أثرت بشكل كبير على أمنه الداخلي والإقليمي، مما استدعى اتخاذ تدابير مضادة على عدة أصعدة. في مقدمة هذه التهديدات يأتي الملف النووي الإيراني، الذي يُعتبر تهديداً وجودياً. في هذا السياق، أعد الكيان نفسه لثلاثة سيناريوهات محتملة: التوصل إلى اتفاق نووي، عدم التوصل إلى اتفاق، أو استمرار التقدم النووي الإيراني. في حال فشل التوصل إلى اتفاق، تم التأكيد على ضرورة فرض عقوبات صارمة بالتنسيق مع الولايات المتحدة، مع استعداد سريع للتعامل مع أي اختراق نووي من خلال تدمير المواقع النووية وتوجيه إنذارات شديدة لإيران.

على الصعيد الإقليمي، اعتبر تامير هايمن، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي، أن أنشطة إيران في العراق واليمن ولبنان تشكّل تهديدات مستمرة، حيث يسعى الكيان إلى منع تعزيز قوة وكلاء إيران في هذه المناطق. في العراق، عدّ الوجود الأميركي حاسماً في تقليص نفوذ إيران، بينما في اليمن، رأى أن تهديد الحوثيين يستدعي تنسيقاً أمنياً مع دول الخليج.

أما في لبنان، فقد ركز الكيان على تعزيز الدفاعات الحدودية مع لبنان في ظل تعزيز حزب الله لقوته، حيث تم اتخاذ تدابير رقابية على الأسلحة ومنع شحناتها ضمن الرؤية الاسرائيلية طويلة الأجل في لبنان التي تسعى لتحقيق السلام عبر دعم استراتيجية واسعة تشمل تشجيع الاستثمار الغربي ودول الخليج في لبنان لموازنة المساعدات الإيرانية، وتعزيز التغييرات التي تقلل من هيمنة حزب الله السياسية، كما واستكشاف الفرص لتحسين العلاقات الاسرائيلية اللبنانية خاصة في حل النزاعات الحدودية.

من جهة أخرى، يستمر الوضع في سوريا في التأثير على استقرار الكيان، حيث سعت إسرائيل إلى تجنب تطور السيناريوهات المتطرفة من خلال تنفيذ ضربات عسكرية موجّهة ضد الفصائل المرتبطة بإيران وتنسيق الجهود مع تركيا والدول المجاورة لاحتواء عدم الاستقرار، والحفاظ على السيطرة على مرتفعات الجولان.

أما بالنسبة للتهديدات الفلسطينية، فإن استمرار القتال ضد «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في غزة فرض على الكيان ضرورة تدمير قدراتهما العسكرية ومنع إعادة تسليحهما، مع تعزيز التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية، وذلك لمنع «حماس» من استعادة قوتها السياسية والعسكرية في القطاع. وفيما يخص التهديد المتعلق بإمكانية قيام دولة ثنائية القومية نتيجة الضم الأحادي للأراضي الفلسطينية، يعمل الكيان على تعزيز العلاقات مع الدول العربية المعتدلة، خاصة عبر مسار التطبيع مع السعودية، والحد من بناء المستوطنات لتعزيز الاستقرار الإقليمي وتجنب عواقب هذا التهديد.

من جهة أخرى، وحول تحديات التكامل الإقليمي، يسعى الكيان إلى تعزيز علاقاته مع الدول العربية المعتدلة ودفعها نحو التعاون الأمني والاقتصادي، مع التركيز على مواجهة التهديدات الإيرانية وتعزيز استقرار المنطقة. وفيما يخص العلاقات الأميركية الإسرائيلية، يحاول الكيان الاستفادة من العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب، حيث تم التأكيد على تعزيز التعاون الأمني مع واشنطن، مع مراعاة التحديات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة.

والتّحدي الأهم بالنسبة لإسرائيل هو على الصعيد المحلي، حيث يواجه الكيان تحديات أمنية واقتصادية واجتماعية كبيرة، أبرزها تراجع الروح القتالية لدى الجيش والتهديدات الداخلية الناتجة عن الانقسامات الاجتماعية والسياسية والأزمة الاقتصادية.

في هذا السياق، تم التأكيد على أهمية تطوير عقيدة دفاعية جديدة تواكب التغيرات الأمنية، مع ضرورة تحسين الاقتصاد المحلي من خلال تجديد النموذج الاقتصادي والاجتماعي بما يتناسب مع التحديات المستقبلية.

تعزيز الأمن القومي الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر

كشف هجوم السابع من أكتوبر 2023، العديد من الفجوات في فهم وتطبيق مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، مما أدى إلى خلل في استعدادات قوات الاحتلال وعدم قدرتها على الاستجابة الفعّالة لهذه المباغتة. وبناءً على ذلك، ظهرت مجموعة من التوصيات التي طرحها عدد من الخبراء، مثل تامير هايمن وإيدو هيشت وشاي شبتاي، بهدف تحديث الاستراتيجية الأمنية وتعزيز مرونتها لمواكبة التحديات المستقبلية.

أولى هذه التوصيات كانت؛ ضرورة تقييم الوضع الأمني سنوياً من قبل مجلس الأمن القومي، مع التركيز على المخرجات الاستراتيجية الأساسية مثل الردع والإنذار والحسم والدفاع. كما تم التأكيد على أهمية تحسين توازن الردع وتعزيز جمع المعلومات الاستخباراتية وتطوير قدرة الجيش على اتخاذ القرارات بسرعة وكفاءة في مختلف السيناريوهات.

في السياق ذاته، شددت التوصيات على الحفاظ على المبادئ الأساسية لعقيدة الأمن مع تطويرها لتتناسب مع المتغيرات. كما تم التأكيد على أهمية تقوية الآلية السياسية لضمان اتخاذ قرارات استراتيجية فعّالة بناءً على تقييمات دقيقة.

من جانب آخر، طُرحت ضرورة تعزيز التنسيق بين المؤسسات الأمنية المختلفة، وإعادة بناء أنظمة جمع المعلومات الاستخباراتية مع تحديث معايير اختيار وتدريب الكوادر الاستخباراتية، وتم التأكيد على ضرورة فهم أعمق لثقافة العدو ومراعاة الاختلافات الثقافية في استراتيجيات الردع. إضافة إلى ذلك، كانت هناك دعوات لموازنة الاعتماد على الذات والقوى الكبرى، ودعم الاستقلالية العسكرية بما يتيح لإسرائيل مرونة في اتخاذ القرارات وتنفيذ العمليات.

وفيما يتعلق بالقدرات العسكرية، تم التأكيد على ضرورة تحسين قدرة الجيش على التصدي للتهديدات المتنوعة، مع إعادة بناء نظام الدفاع الإقليمي لمواجهة التهديدات القوية مثل الغزو، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الاستعدادات لمواجهة الهجمات الإرهابية المستمرة. كما دُعِيَ إلى تعزيز قدرة جيش الاحتلال على خوض حروب طويلة الأمد ضد تهديدات متعددة. أخيراً، تم التأكيد على أهمية وجود سياسة أمن قومي رسمية ومتجددة يتم تعديلها استجابة للتطورات السياسية، مع ضرورة إعادة النظر في المبادئ الأساسية للأمن القومي لتناسب التحديات المستقبلية.

بناءً على ما تقدّم، يظهر جلياً حجم الإخفاق الذي تعرّض له الكيان والذي دفع بخبرائه وباحثيه إلى تأكيد الحاجة لتجديد مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي بطريقة تجمع بين التحديث المستمر للممارسات الأمنية والحفاظ على المبادئ الأساسية، بهدف تعزيز قدرة إسرائيل على مواجهة التهديدات المستقبلية وضمان استقرارها بعد الخسائر الفادحة التي تكبّدها والتي زعزعت أمنه واستقراره على المستويين الداخلي والخارجي.

* الأخبار البيروتية
You might also like