كل ما يجري من حولك

معالم أزمة ممتدّة: نتنياهو ماضٍ في تغيير «وجه» إسرائيل

42

متابعات..| تقرير*

تمرّ إسرائيل بواحدة من الفترات الأكثر تعقيداً وخطورة على نظامها السياسي، الذي كفل لها طابعها الخاص وإدارة تناقضاتها الاجتماعية وتجاذبات شرائحها وقطاعاتها، بما أمّن لها استقراراً طويل الأمد نسبيّاً، إذ يتصاعد التوتّر بين الحكومة بقيادة بنيامين نتنياهو، من جهة، والمعارضة والمؤسسة القضائية وشريحة واسعة من الجمهور، من جهة ثانية، إزاء العودة إلى المسعى القديم – الجديد لتغيير النظام السياسي، بما يكفل سطوة السلطة التنفيذية، والانتقال تالياً إلى نظام ديكتاتوري، وفق ما تقول المعارضة.

وفي خضمّ ذلك، تؤثّر الحرب وتتأثّر باللعبة السياسية الداخلية، الأمر الذي يجعل من تطوّرات «الداخل» موضوعاً للمتابعة الخارجية، باعتبار أن من شأن الحرب أن تساعد نتنياهو ومركّبات ائتلافه الحكومي على فرض التغييرات التي يسعون خلفها، كلٌّ وفق أجندته الخاصة؛ وإنْ كانت للحرب نفسها أهدافها أيضاً، والتي لم يكن في مقدور «إسرائيل الدولة» تجاوزها أو التراجع عنها، وهو ما يمثل السبب الرئيسي وراء العودة إليها.

وهكذا، فإن قرار إقالة رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، رونين بار، وعزل المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهاراف ميارا، يُعدّان جزءاً من حملة أوسع تهدف إلى تقويض استقلالية المؤسسات الرقابية على الحكومة، فيما ترى المعارضة في مساعي نتنياهو، الذي يتّهم «الدولة العميقة» بالتآمر ضدّه، محاولةً لتعزيز سلطة رئيس الحكومة الشخصية على حساب «الديمقراطية» التي ميّزت إسرائيل في تعاطيها مع مكوّناتها اليهودية، ومنعت، إلى الآن، التصادم والاحتراب في ما بينها.

لكنّ نتنياهو، وعلى رغم المخاطر، يستمرّ في قيادة حملة شرسة ضدّ المؤسسات التي تشكّل «عقبة» أمام سياساته، بما في ذلك هجومه المستمرّ على النظام القضائي، في حين بات استخدامه المتكرّر لمصطلح «الدولة العميقة» جزءاً من خطابه اليومي، وهو ما يبدو أنه محاولة لإلهاء الجمهور عن محاولاته لتمرير أجندته الخاصة، والتغطية عليها عبر العودة إلى الحرب في غزة. أمّا الإقالة المفاجئة لرونين بار، والإصرار على إعادة إيتمار بن غفير إلى منصبه وزيراً للأمن القومي، على رغم المعارضة القانونية، فيعكسان استراتيجية تقوم على تجاوز المؤسسات الرقابية، بغرض تحقيق أهداف سياسية ضيّقة.

وكانت موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية اندلعت في جميع أنحاء الكيان، ضد سياسات نتنياهو وائتلافه، تحت عنوان بدا «موفّقاً» وجذاباً: إعادة الأسرى الإسرائيليين من غزة، وإنْ بثمن إنهاء الحرب. وممّا لفت، هذه المرّة، حضور مركبات معتدّ بها من المجتمع المدني، بما في ذلك الجامعات وأصحاب المناصب العليا السابقون في القضاء، والذين عبّروا عن استيائهم من محاولات الحكومة تقويض المؤسسات.

من شأن الحرب أن تساعد نتنياهو ومركبات ائتلافه الحكومي على فرض التغييرات التي يسعون خلفها

وحتى الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، الذي عادةً ما يتجنّب التدخل في السياسة، بدأ يتّخذ موقفاً واضحاً ضدّ سياسات نتنياهو، في ما يشير إلى خطورة الوضع. وعلى رغم التحرُّكات الشعبية الواسعة، إلا أن الأمور ما زالت غير واضحة؛ إذ، وعلى رغم نجاح الاحتجاجات في الماضي (2023)، في الضغط على الحكومة لتحقيق تغييرات محدودة – كانت في معظمها مؤقتة -، إلّا أن السياق الحالي يبدو مختلفاً نسبياً، إذ يستغل نتنياهو توقيت إجراءاته التغييرية، مستفيداً من حالة الإرهاق العام، والحرب المستمرّة، لتحقيق أهدافه، فيما يبدو أن الأمور تميل إلى مصلحته، كونه يحقّق خطواته واحدة تلو أخرى، من دون مقاومة كبيرة من المؤسسات أو المعارضة، بالمستوى الذي يكفل فرملة مساعيه، ما لم يطرأ تغيير وازن على حجم الاحتجاجات وفاعليتها وتأثيرها.

وسبق أن عمل نتنياهو على تأمين استقرار حكومته عبر إرضاء جميع مركبات الائتلاف، الأمر الذي أدّى إلى توحيد هذه الجهات حول خطّته التغييرية. فهو أرضى اليمين المتطرّف، ممثَّلاً في بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، الذي أعاده إلى الحكومة، عبر ضمان استمرار الحرب على قطاع غزة، وربما لاحقاً تهجير الفلسطينيين وضمّ القطاع إلى إسرائيل، إضافة إلى مصادقة «الكابينت» على الاعتراف بـ13 مستوطنة في الضفة الغربية.

كما أرضى الحريديم، من خلال مشاريع قوانين تلغي التجنيد العسكري في صفوفهم، وتضمن تقديم مساعدات وتمويل كبيريْن لمؤسساتهم التربوية والاجتماعية، وهما شرطان كافيان لتحويلهم إلى داعمين لاستمرار الحكومة، فيما قلّص سلطة المؤسستَين الأمنية والعسكرية عبر إضعاف سطوتهما وتقديراتهما على طاولة القرار في تل أبيب. وبالإضافة إلى ذلك، نجح نتنياهو في تعزيز قبضته على حزب «الليكود»، معيداً المنشقّ جدعون ساعر إلى عباءته.

في المقابل، لا تقف القوى المعارضة على قاعدة صلبة للمواجهة؛ فكل ما يحدث، إلى الآن، لا يعدو كونه ردود فعل «مؤقتة»، تحتاج بدورها إلى العمل على تزخيمها واستمالة قوى أخرى لا تزال محايدة في التركيب العام، من مثل القطاعات الاقتصادية والتمثيل النقابي، وعلى وجه الخصوص «الاتحاد العمالي العام» (الهستدروت)، الذي كانت له الكلمة الفصل في الدفع إلى تجميد ما اصطُلح على تسميته بـ»الانقلاب على النظام الديمقراطي».

وتأمل المعارضة في أن تجمّع وتُجهّز نفسها بأدوات شعبية وقطاعية وزخم عام لمواجهة مخطّط نتنياهو، فيما ليس واضحاً بعد ما إذا كانت هذه الجهود ستؤتي ثمارها. ولعلّه ممّا يضعف آمال المعارضة وحظوظها، غياب التدخّل الدولي، ولا سيما الأميركي، لوقف «التدهور الديمقراطي» في إسرائيل، ذلك أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لن يسارع إلى مساعدة «الديمقراطية الإسرائيلية»، بينما يعمل هو الآخر على تقويض المؤسّسات الديمقراطية في بلاده بشكل مشابه لِما يفعله نتنياهو.

وعلى أي حال، يشكل الوضع الحالي في إسرائيل تحدّياً كبيراً، ليس فقط بالنسبة إلى النظام السياسي وإمكان سطوة السلطة التنفيذية، وإنما أيضاً على مستوى مستقبل الدولة ككلّ. ونتيجة الكباش الحالي، قد تدفع إلى مقاربات متطرّفة، في هذا الاتجاه أو ذاك، ما يعني أنها قد تحوّل الواقع الإسرائيلي إلى ما كان يُعدّ في السابق ضرباً من الأوهام: «الحرب الأهلية»، التي لا تغادر تقديرات الخبراء الإسرائيليين. فإذا استمرّ نتنياهو في اتباع سياساته الحالية، فقد يتسبّب بأزمة سياسية واجتماعية عميقة، ستترك آثاراً طويلة الأمد.

ومع تصاعد الأزمة، يُظهر رئيس الحكومة، كما تقول المعارضة ومعها المحتجون في الشارع، «تصرّفات تبدو وكأنها انعكاس لجنون سياسي»، حيث يضع نفسه في موقع من يهدّد أمن الدولة أكثر من أيّ عدو خارجي، وإلى الحدّ الذي يستخدم فيه الحرب لتحقيق مصالح شخصية ضيّقة. لكن هل هذا هو الواقع؟ يبدو أن هناك مبالغات في كل اتجاه في إسرائيل. إلا أن ما يهمّ في سياق الحرب، هو أن قرار استئنافها، بات محصّناً أكثر من ذي قبل، على رغم غياب الإجماع الداخلي، وذلك على النقيض ممّا كانت عليه الحال في الجولة الأولى، بدءاً من نهاية عام 2023.

*  الأخبار
You might also like