كل ما يجري من حولك

مغامراتُ إردوغان الخارجية ترتدُّ عليه داخلياً

26

متابعات..| تقرير*

لا يمكن للجهاديين العيش في هذه المنطقة من دون أنظمة إسلامية قوية في دول كتركيا والسعودية. كما لم يكن ممكناً لتنظيمات من مثل «القاعدة» و«داعش» أن تكون أصلاً في بلدان كسوريا والعراق، لو لم تسمح تركيا بجيشها القوي وأجهزتها الأمنية بتدفّق الجهاديين من كل البلدان إلى هذين البلدين. إذ إن هؤلاء جاؤوا عبرها من آسيا الوسطى وأوروبا والخليج العربي والمغرب العربي ومن روسيا والصين. والواقع أن ما نشهده اليوم من حفلات دم، هو نتاج مباشر لاستخدام النظام الإسلامي في تركيا العقدة الجغرافية التي تمثّلها البلاد لنشر الفوضى في العالم العربي.
بدأ التأسيس لذلك مع وصول رجب طيب إردوغان إلى السلطة عام 2002، حيث لم تمضِ ثمان سنوات استغلها الرجل لترسيخ نظامه الإسلامي بعد أن ضمنت له أميركا حياد الجيش العلماني شرط ألا يمس بالأسس العلمانية للدولة، حتى اندلعت الأحداث الدامية التي سُميت «الربيع العربي»، والذي نشهد بعد 15 عاماً من بدايته، النسخة الثانية منه. نسخةٌ تُظهر أن جوهره هو فرض سيطرة أميركية مطلقة على المنطقة، بمعاونة كل من تركيا والسعودية وإسرائيل، من دون أن يمنع ذلك وجود خلافات حقيقية ومنافسة على الأدوار بين الدول الثلاث الأخيرة. وإلا كيف لدولة مثل تركيا أن يكون لها هذا الوجود في سوريا والعراق وليبيا والسودان وأفغانستان وغيرها، من دون موافقة الأميركيين والأوروبيين؟
ثم ماذا يعني مثلاً أن ترعى أميركا وتشارك في اتفاق بين «قسد» والرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، على رغم العداء المتأصل الذي لا يقبل الحلول الوسط بين تركيا والمقاتلين الأكراد في سوريا، في حين أنها لا تتدخّل في أمر مماثل في السويداء؟ أليس لأن الأخيرة متروكة لإسرائيل، لإقامة دولة الجنوب السوري التي يراد سلخها عن البلاد؟ وهل يمكن مثلاً لدولة عضو في حلف «الناتو» أن تعمل ضد مصالح الحلف وتبقى عضواً فيه؟ هل يمكن لها أن تعمل ضد إسرائيل التي هي أساس هذا المشروع الكبير؟
وعلى المستوى الاقتصادي، لا تستطيع تركيا العيش بلا أحد أمرين: إما الحصول على مساعدات وإما البلطجة. وفي حين كانت قبل إردوغان تضع عينها على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لتعزيز اقتصادياتها، جرى دفعها نحو الشرق للحصول على «الغنائم»، وذلك لم يكن ممكناً لولا وجود الرئيس وحزبه الإسلامي في السلطة.
كل ذلك كان مقدّمات لدور تلعبه تركيا وتشارك فيه قطر ولا يتعارض لا مع دور السعودية ولا مع دور إسرائيل. فكل هؤلاء يتوزّعون الأدوار ضمن مشروع السيطرة الأميركية على هذه المنطقة.
الحقيقة أن ما حصل هو أن تركيا العلمانية أُلبِست عباءة إسلامية لا تعدو كونها جزءاً من عدة الشغل، تماماً على طريقة فرق المستعربين الإسرائيلية، والتي يتنكّر عناصرها بثياب عربية ويتحدّثون لغة عربية، عندما يُرسلون لتنفيذ مهمات قذرة في الضفة الغربية أو قطاع غزة. وحتى هذا التنكّر لم تكن تركيا تعبأ بأن تداريه في الأشهر الأولى للعدوان على قطاع غزة، حينما كانت ترسل الألبسة العسكرية إلى الجيش الإسرائيلي، والأغذية والخضار الطازجة إلى الإسرائيليين، غير مكترثة لمئات الشهداء الذين كانوا يسقطون في غزة كل يوم، في مجازر هي ليست مستغربة عند إردوغان الذي ما فتئ يسمح بارتكاب مثلها، منذ أن أذِن بتدفق الجهاديين إلى سوريا والعراق، وصولاً إلى مجازر الساحل السوري الأخيرة.
لم يكترث إردوغان لمجازر قطاع غزة، إلا عندما عاقبه الأتراك في الانتخابات البلدية الأخيرة، وجاؤوا بأمثال أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، والذي يعِد حزبه «الشعب الجمهوري» المعارض، بسياسة أكثر منطقية وواقعية، وخصوصاً في سوريا، وأصبح اليوم التهديد الأول له في انتخابات الرئاسة لعام 2028، بدليل الاحتجاج الكبير الذي أطلقه سجنه بتهم فساد وإرهاب.
قد لا يكون واقعياً الحديث عن سقوط قريب لإردوغان، إلا أن الواضح أن الضيق منه في تركيا يتزايد، بالذات بسبب سياساته في دعم الجهاديين، والتي من دون شك مهّدت لمجزرة العلويين في سوريا، وأزعجت علويي تركيا البالغ عددهم 20 مليوناً. إذ إنه أمعن بذلك في تمزيق تركيا نفسها من الداخل، لتزداد حاجة الأتراك إلى حكم أكثر هدوءاً وميلاً إلى التصالح، ولا سيما بعد دعوة عبدالله أوجالان أنصاره إلى إلقاء السلاح، في ما يمثل فرصة لإنهاء تمرّد عمره عشرات السنين، وكلّف البلاد ما كلّفها في الخسائر البشرية والاقتصادية.
السؤال الكبير الآن، هو هل ستسمح أميركا بسقوط إردوغان؟ وهل يمكن أن يكون لتركيا دور مختلف في هذه المنطقة تحت الرعاية الأميركية؟

* الأخبار البيروتية
You might also like