كل ما يجري من حولك

ترامب يقـود حملة «تأديب» المنطقة: عهد الحروب المقنّعة

42

متابعات..| تقرير*

على الرغم من أن التجربة الطويلة تزخر بالأمثلة عن التناقض الكامل بين خطاب الإدارات الأميركية المتعاقبة، خاصة في ميدان السياسة الخارجية، وأفعالها، فإن الكثير من الخبراء والمحلّلين والمراقبين، عبر العالم وفي منطقتنا المنكوبة، وهذا هو الأغرب، يكرّرون في كل مرة، عند بداية عهد أي إدارة أميركية جديدة، حماقةَ تصديق مزاعمها عن نواياها وتوجهاتها المعلنة.

من اقتنعوا مع بداية العهد الجديد للفاشي الأخرق، دونالد ترامب، بادّعاءاته عن تفضيله الصفقات على الحروب، هم أنفسهم الذين أصرّوا، طوال الأشهر الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ غزة، على أن إدارة جو بايدن «الواقعية» ستتمايز بالضرورة عمّا تفعله حكومة بنيامين نتنياهو «الأيديولوجية المتطرفة»، على رغم الشراكة الرسمية الكاملة بين هذين الطرفين.

يخوض ترامب اليوم حربَين في الإقليم، في اليمن وفي غزة، مرشّحتين للتوسع نحو ساحات أخرى فيه، وفي مقدّمتها إيران، من دون الإعلان رسمياً عن أن بلاده في حالة حرب. محاولةُ فهم هذه السياسة المعتمدة من قبله وفريقه، تقتضي التوقف قليلاً عند الاعتبارات والمفاهيم والحسابات الفعلية التي تحكمها، والتي تمثّل استمرارية لسياسة الحرب الدائمة، المنخفضة التوتر أحياناً والعالية التوتر أحياناً أخرى، والتي اتّبعتها الإدارات الأميركية المتعاقبة.

فما هي الحرب وفقاً للمنظور الفعلي لترامب؟ إذا استعدنا خطاباته ومواقفه المكرورة، منذ حملته الانتخابية في عام 2016 وإلى الآن، سنرى أن الحرب تعني بالنسبة إليه الاضطرار إلى إرسال آلاف الجنود للقتال في بلدان بعيدة، من مثل أفغانستان والعراق، وتكبّد خسائر كبيرة في صفوفهم.

أما إذا اقتصر الأمر على شنّ الجيش لحملات قصف جوي وصاروخي مدمّرة، تمتد لأيام وربما أسابيع، كما يحصل في اليمن اليوم، تحصد أرواح «الأشرار» من دون سقوط قتلى أميركيين، فإن ذلك في عرفه، وفي عرف القطعان الفاشية التي صوّتت له، ليس حرباً.

الحرب تعني، وفقاً له، عودة جثث الجنود الأميركيين في أكياس إلى البلاد، فحسب. كما أن التقدّم التكنولوجي الهائل الذي تحقّق بفضل الثورة الرقمية، عاد ليدغدغ الأحلام القديمة للإمبراطورية الهرمة بتمكينها من المبادرة إلى عمليات تأديبية، قد تتحوّل إلى عمليات إبادة جزئية، من دون خوض معارك ودفع أثمان بشرية من جهتها.

سبق لمثل هذه الأحلام، التي انتعشت بفضل «الثورة في الشؤون العسكرية»، وحربَي الكويت (1991) وكوسوفو (1999)، أن خابت بعد حربي العراق الثانية (2003) وأفغانستان (2001)، والخسائر التي تكبّدتها القوات الأميركية المحتلة في البلدين المذكورين كليهما. لكنّ الثورة الرقمية، و«الإنجازات» التي يدّعيها الطرف الإسرائيلي في حربيه على لبنان وغزة، أحيت تلك الأحلام مرة أخرى.

والواقع أن ثمة علاقة وثيقة ومعروفة بين التقدّم التكنولوجي واستسهال اللجوء إلى القوة العسكرية العارية، من قِبل القوى الاستعمارية القديمة والجديدة، أسهب في شرحها مفكّرون من أمثال الفرنسي آلان جوكس، في كتابَيه «إمبراطورية الفوضى» (2002) و«حروب الإمبراطورية العالمية» (2012)، والأميركي مايكل كلير في كتابه «دماء ونفط» (2005)؛ وحذّرا، كلّ من جهته، من صعود ما أسموه الفاشية التكنولوجية.

واليوم، تحاول قوى الفاشية التكنولوجية تصوير حروبها الراهنة، وربما المستقبلية، على أنها عمليات شرطة تأديبية لا أكثر، بالاستناد أساساً إلى عدم دفعها أثماناً بشرية أو اقتصادية هامة نتيجة لأفعالها.

لا تتناقض هذه السياسة العدوانية مع سعي ترامب لصفقة مع روسيا. هو والعديد من أعضاء فريقه ومستشاريه عارضوا استعداء روسيا، ومن ثم التورّط في حرب غير مباشرة معها في أوكرانيا انطلاقاً من اعتقادهم بضرورة تحييدها، وربما كسب ودّها، في المواجهة الاستراتيجية الأخطر بنظرهم بين بلادهم والصين. لكنّ الدافع الرئيسي الحالي لجهده المحموم للتوصل إلى تفاهمات مع موسكو، هو قناعته، وقطاعات من النخب العسكرية والسياسية الأميركية، بأن الأخيرة تخرج منتصرة في حرب بالوكالة بينها وبين حلف «الناتو» دامت لأكثر من 3 سنوات.

لقد أكّدت الوقائع صحة وجهة نظر الخبراء الجديّين، غير المتلفزين، والذين توقّعوا فشل الحرب الشاملة الغربية، العسكرية والاقتصادية – المالية، والأيديولوجية – الإعلامية، ضد هذا البلد على الأرض الأوكرانية، وفي مقدّمتهم المفكّر الفرنسي إيمانويل تود، الذي اختار لكتابه الصادر في بداية 2024 عنواناً حاسماً: «هزيمة الغرب». يريد ترامب عقد صفقة مع روسيا تحدّ من كلفة الحرب المادية الهائلة بالنسبة إلى إمبراطوريته المتراجعة القدرات، وتوفّر شروطاً ملائمة لتوافقات مع موسكو حيال المجابهة الأميركية – الصينية، إن كان ذلك ممكناً، وتجاه صدام محتمل بين واشنطن وطهران.

في منطقتنا، يعتبر ترامب أن في مقدوره «البناء على الإنجازات» الإسرائيلية ضدّ محور المقاومة عبر استكمال الحرب ضد أطرافه في غزة واليمن، وربما غداً في إيران ولبنان.

الإيمان الأعمى بقدرات آخر الابتكارات التكنولوجية العسكرية على الإجهاز على الأعداء بأقلّ الأكلاف، والذي يعزّزه وجود أمثال إيلون ماسك في فريقه، يحكم خياراته الراهنة.

لكن سقوط قتلى أميركيين في مغامراته الحالية، وربما غداً، أو أي تطور غير متوقّع على مستوى منشآت النفط وناقلاته، وانعكاسات ذلك على أسعاره واستقرار سوقه، ستنجم عن كل ذلك تداعيات شديدة السلبية على الصعيد الداخلي الأميركي بالنسبة إلى الرئيس الأخرق. مضيّ الأخير في غيّه سيفهمه آجلاً أم عاجلاً، أنه يلعب بالنار في منطقة هي بمثابة برميل بارود له ولأمثاله.

You might also like