كل ما يجري من حولك

هذه أوراقُ قوة اليمن في حرب أمريكية بلا أفق

99

متابعات..| تقرير*

ثمّة حديث نبوي متَّفق عليه يقول: «أتاكم أهل اليمن، هم أرقّ أفئدة وألين قلوباً. الإيمان يمان والحكمة يمانية». حديثٌ بات يُتداول كثيراً منذ اندلاع الحرب على اليمن عام 2015، وتجري محاولات لتفسيره على غير ما هو واضح منه، بالقول إن المقصود باليمان هو جهة اليمين وليس اليمن. على أنه مرّة أخرى، يُثبت اليمن أنه مختلف؛ إذ عندما كانت شوارع المدن العربية كلها فارغة من المحتجّين على مذبحة غزة، رغم هولها، كان اليمنيون يملؤون الساحات بالملايين، في حين افتتحت صنعاء جبهة الإسناد الأكثر فاعلية للقطاع، والتي استمرت حتى يوم وقف إطلاق النار، مع وعد بأن تُستأنف ما إن تخرق إسرائيل الاتفاق، وهذا ما حصل بالفعل.

أما الغارات التي أمر بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ليؤكد عبرها أنه مختلف عن سابقه، فقد أظهرت، خلال الأيام الماضية، أن المختلف حقيقة هو اليمن، فيما يتعين الآن الانتظار لمعرفة ما إن كان ترامب سيتمكّن بالفعل من الحصول على نتائج مغايرة عبر هذه الحرب، أم أن الأخيرة ستمثل أول انتكاسة له، عبر كسر السياق الذي فرضه عبر التهديد والتهويل، وحقّق بفضله الكثير، من دون أن يضطر إلى إطلاق رصاصة واحدة. هنا، يصلح العراق ولبنان وسوريا كأمثلة، حيث تتصرّف سلطات تلك الدول مع المناهضين للأميركيين على قاعدة أن «ترامب آت إلينا، فَلْنتقِّ شره».

على أن نتائج الأيام الثلاثة الأولى من الغارات على اليمن، تشير إلى أن ترامب صار بالفعل أمام خيارَين: أولهما التسليم بمحدودية ما تستطيع الولايات المتحدة القيام به عبر القصف الجوي، والثاني التورط في حرب برية ضد صنعاء، وهذا غير وارد في قاموس الرئيس الأميركي. وعلى أي حال، فإن رفْع سقف الأهداف الأميركية إلى الحدّ الذي رسمه ترامب، يضع واشنطن أمام تحدٍّ كبير، في تجربة ليست الأولى له مع اليمنيين. ذلك أنه هو نفسه كان داعماً للسعودية والإمارات خلال ولايته الأولى بين 2017 و2021، بالسلاح وتوجيه الطائرات حين كانت تقصف وترتكب المجازر في اليمن، وعندما لم يكن اليمنيون يمتلكون السلاح الذي لديهم اليوم من حيث النوعية والكمية.

ترامب يهوّل لكنه لا يغش نفسه وحساسيته عالية ضد تورّط طويل الأمد

بيد أن اليمنَ لم يكن في أية مرحلة من مراحله بالقوة التي هو عليها اليوم، فضلاً عن أنه كان عصياً على الغزاة طوال تاريخه. إذ إن البلد يقع على جغرافيا تساعده في امتصاص الضربات، من جهة، وفي توجيه ضربات مؤثرة، من جهة أخرى؛ ولعل هذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل صنعاء تتعامل بثقة وروية مع موجة الغارات الحالية. فلا مكان هنا للانفعال ولا للاستعراض؛ ولذا، كان كافياً في هذه المرحلة تحقيق أمرَين: الأول هو منع العدو من تحقيق هدفه المتمثل بتدمير القدرات اليمنية، وذلك عبر حماية الأصول العسكرية باستخدام الجغرافيا المساعدة؛ والثاني هو الحرص على الرد السريع غير المؤجل، باستهداف حاملة الطائرات «هاري ترومان» التي انطلق منها جزء من الغارات.

أما الوقتُ، فهو في مصلحة صنعاء التي كانت دائماً في موقع من ليس لديه الكثير ليخسره، في حين أنها تملك الآن مجموعة واسعة من الخيارات التي يمكنها عبرها فرض إرادتها. ومن بين تلك الخيارات، استهداف سفن كل دولة تساعد العدوان، وقصف أراضي أي دولة تنطلق منها الهجمات التي لمّح اليمنيون إلى أن جزءاً منها يخرج من دول خليجية مجاورة، وصولاً إلى إغلاق مضيق باب المندب كلياً أمام التجارة، بما فيها عبور سفن النفط، ومروراً بقصف العمق الإسرائيلي، في حال قرّرت واشنطن خنق اليمن اقتصادياً، بعد تصنيفها حركة «أنصار الله» منظمة إرهابية أجنبية.

كما إنه من الواضح تماماً، بالنسبة إلى الأميركيين وحلفائهم في اليمن، وبالتجربة المباشرة، أن الفصائل اليمنية المتحالفة معهم لا تستطيع تقديم أية مساهمة في كسر «أنصار الله»، التي تضاعفت قوتها البشرية والعسكرية مرات منذ تطبيق الهدنة في نيسان 2022. ولو كان هؤلاء يستطيعون فعل شيء، لما اضطرت واشنطن إلى تشكيل التحالفات البحرية، بما ترتّبه الأخيرة من كلفة باهظة لخوض حرب جوية وبحرية ثبت خلال أكثر من عام أنها ليست فقط قاصرة عن إضعاف صنعاء، وإنما تمثّل سبباً لتقوية الأخيرة وتعزيز موقعها وشعبيتها التي تصاعدت بشكل كبير نتيجة موقفها المساند لغزة، في وقت عزّ فيه مثل هذا الموقف.

وفي المقابل، كان خصوم الحركة يشاركون في التآمر مع إسرائيل، أو ينأون بأنفسهم عن القيام بأي فعل لنصرة غزة، ومن بينهم حزب «الإصلاح» الذي طمّعه ما جرى في سوريا، ليتوهّم بأن قوى مثل الولايات المتحدة أو السعودية ستساعده على تطبيق السيناريو نفسه في اليمن، في حين أن دولة مثل السعودية لا تجرؤ على الإتيان بأي حركة خوفاً من انتقام صنعاء، بمعاودة قصف أراضي المملكة ومنشآتها.

بالنتيجة، تبدو الآفاق مقفلة أمام العدوان الأميركي الجديد، والذي يَظهر أنه لن يضيف الكثير على ذلك الذي سبقه، واستمرّ طوال مدة فتح اليمن جبهة الإسناد لغزة. فالذي قام بالأول هو الجيش الأميركي نفسه الذي يقوم بالثاني؛ وإذا كان ترامب يتميّز عن سلفه بالتهويل، فإنه لا يغش نفسه، بل هو أكثر حساسية إزاء التورّط المباشر الطويل الأمد في حروب الشرق الأوسط. وهذا بالضبط ما قاله وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، صراحة، ثم زاد عليه مستشار الأمن القومي، مايك والتز، اعترافاً ضمنياً بفشل الموجة الأولى من الغارات، حين أقر بأن صنعاء تمتلك دفاعات جوية متطوّرة بشكل لا يُصدّق، وصواريخ «كروز» مضادة للسفن.

* الأخبار
You might also like