كل ما يجري من حولك

زرفة سباهية… جسرُ العبور إلى الحقيقة

28

متابعات..| تقرير*

صباح يوم 7 آذار 2025، كانت قرية قبو العوامية، على تقاطع طريق جبلة – القرداحة في منطقة الساحل السوري، على موعد مع زلزال مختلف عن ذاك الذي ضربها فجر 6 شباط 2023. فالأخير الذي كشف عن بنية أرضية هشّة كان نذيراً، على ما يبدو، أو هو جرس إنذار، بهشاشة مجتمعية ترسو على خط الصدع نفسه، وتنبئ بالتأكيد بأن “ما فوق الأرض” لا يقل هشاشة عما تحتها. تقول رواية” الكنّة” الناجية في ذلك الصباح، إن “مجموعة أمنية، بعضها يلبس زي الأمن العام، كانت قد اقتحمت القرية. وعندما جاء الدور على منزل زرقة سباهية (76 عاماً) قام المسلحون بتفجير أقفال المنزل. وعلى الفور اقتادوا كنان وسهيل ولمك إلى فناء البيت المطل على الطريق. الأولان ابنان والثالث حفيد”.

ثم كان السؤال الصادم: “هل أنتم علويون؟”، لتتكشّف التهمة التي لاصقت شريحة بأكملها من السوريين منذ صبيحة 8 كانون الأول المنصرم، تاريخ سقوط نظام بشار الأسد. وقبل أن يأتي الجواب، انهمر الرصاص على الثلاثة، كاشفاً عن أن أسّ الصراع لا يعدو أن يكون طائفياً، بدرجة تنزع المظلة التي لا يزال كثيرون يعملون على الاحتفاظ بها ستاراً يبدو لازماً لـ”مشروعية” غائبة.

لم ينته المشهد هنا، بل كان بداية لآخر لا يقل إيلاماً عن الأول؛ إذ إن رواية “الكنّة” تضيف أن “الجثث الثلاث ظلّت ملقاة على الأرض لمدة أربعة أيام، وممنوعة من الإكرام بالدفن، تحت حراسة الفصائل التي ظلّت دورياتها تجوب المكان، بل استوطن جزء منها الدار المقابلة كمن يريد القول: ها نحن ذا”. أما “أم أيمن” (زرفة سباهية)، فلم تغادر المكان، وآثرت أن تظلّ في حراسة أحبائها، وفق ما تضيف الرواية.

ومقطع الفيديو الذي ظهر يوم 11 آذار، كان قد صوّر خلال إحدى “المواجهات” بين أم أيمن، ومن لم يكتف بالقتل، بل مضى نحو مطارح أبعد. وإذا كانت سردية الفيديو توحي بثبات الأم أمام سيل الإهانات التي كانت توجّه إليها، من دون أن يخلو الأمر من السخرية على ضفتي المواجهة، بين أم ثكلى كل ذرة فيها تقول “لا حول ولا قوة إلا بالله”، ورجلين يقولان إنهما يقاتلان “تحت راية الله”، إلا أنها كانت توحي أيضاً بحتمية “الانفجار” الذي وقع حين رفعت الأم سبابتها قائلة “فشرت” – تلك الكلمة التي تُستخدم في الساحل ولربما في مناطق عدة للرد على كلام مليء بالزور والبهتان -، كنوع من الرد على قول أحد المسلحين “أعطيناكم الأمان… بس غدرتوا فينا”. وكلمة “فشر” موجّهة إلى المسلحين، لا إلى انتمائهما الطائفي، وفق ما سعى البعض للترويج.

المواجهة بين زرفة وقتلة أبنائها فضحت المسلّحين الذين يزعمون أنهم يعملون “تحت راية الله”

قد تكون اختزلت “أم أيمن” بكلمتها تلك، قصة “بينوكيو” للروائي الإيطالي كارلو كولودي، والتي تتمحور حول السرديات التي من شأنها أن تعزّز الكراهية، مستخدمةً أفعالاً “يوتوبية” في المعالجة، من نوع “كبر الأنف” عند من يكذب. والكذب هو رأس حربة في تلك السرديات التي كانت تجهد في ترسيخ ذاك الفعل، لتؤكد أن “الأنف سيزداد طوله كلما تداعت الكذبة لأن تتخذ أحجاماً أكبر”.

في كلمة له أمام شخصيات ثقافية وسياسية، ألقى الكاتب السوري الراحل، سعدالله ونوس، كلمة مطوّلة انتقد فيها معالجة السلطات للأزمة التي مرّت بها البلاد أواخر السبعينيات من القرن الماضي. وفي تلك الكلمة، كان سؤال ونوس الكبير هو: “لماذا تكذب السلطة؟”، ليجيب بالقول إن “الكذب هو دلالة على الخوف، والسلطة إذ تكذب، فتلك دلالة على أنها خائفة”. آنذاك، لم تحدث “صخرة” ونوس التي رمى بها في بركة لم تكن راكدة، دوائر من النوع الذي يتّسع عادة في مثل هذه الحالات، ولعل النتيجة بدت دلالة على أن “الكذب” كان لا يزال يمثّل “ملحاً” مستساغاً للسوريين، لأن النقيض ليس بمستساغ لديهم.

رمت “أم أيمن” بصخرتها في البركة الهائجة، ومن المقدّر لتداعياتها أن تزيد من الأثر الناجم أصلاً عن “الكذب”، حيث الترويج للأخير يعطي “مشروعية” لممارسة كل هذه البربرية. وسردية “سوريا المتوحشة” السابقة التي يجري، الآن، تأطيرها لتضم إلى “بروازها” كل الطيف العلوي، المضطهد والمعارض والمهمّش، على حد سواء، تبيح “التنافس” في إنتاج نظيرة لها، لكن مع إضفاء لون رائج على مشهدية “الانتقام” التي تستسقي الدم، والمزيد منها يستسقي المزيد منه.

حتى الآن، يمكن القول إن زرقة مدّت، بكلمتها تلك، جسراً لعبور العابرين إلى ضفة الحقيقة، والأخيرون باتوا عابرين للطوائف والمذاهب. فقد استقبل “بريدها” الذي لا عنوان له، سيلاً من الرسائل، يجمع جزء منها على أنها “أصبحت بملايين الأبناء”، فيما البعض الآخر كان قد أشار إلى أنها باتت كما “السنديانة التي لا تنحني”. أما الثالث فأنبأ بـ”ضرورة الاستعداد لدعاء أم أيمن الذي لا بد له أن يستجاب”. ومن النُّخب، سيكتب جورج ترشيني في منشوره على وسائل التواصل الاجتماعي: “لعن الله ثورة أنتم فيها، ولعن الله حقاً أنتم المدافعين عنه”. أما عبدو حليمة، الأردني الفلسطيني الذي شارك المنشور، فأضاف إليه “السلام على الأم المفجوعة التي أوجعت آكلي أكباد ولحم البشر بشموخ الأنبياء وشجاعة آل البيت”.

* الأخبار البيروتية

You might also like