كل ما يجري من حولك

حكايات الناجين من مذبحة الساحل: بين المغارة والسقيفة وخزائن المطبخ

70

متابعات..| تقرير*

ربّما، يصعب عليك النجاة من موت شبه محتوم. لكن، مع ذلك، تحاول النجاة، خاصةً إذا كنت ربّ أسرة صغيرة، ومعيل أسرة كبيرة. حينها، يصبح عليك أن تحمل أطفالك وتركض في البراري، التي، لأول مرّة، لن تكون خائفاً من وحوشها؛ ذلك أن مَن وصل إلى بيتك، واستباح كل ما فيه، ثم قتل مَن لم يتمكّن من اللحاق بك إلى الأحراج، هو الوحش الأكبر. وأهل الساحل السوري، أو مَن بقي منهم على قيد الحياة بعد المذبحة، خاصةً في مدينتَي بانياس وجبلة، وأرياف اللاذقية والقدموس، دفعتهم “عزّة الروح”، كما وصفوها، إلى البحث عن سبل للنجاة؛ فمنهم مَن وجدها في عليّة المطبخ، وآخرون في الخزانة، وكثر وجدوها في الأحراج، بين الغابات، وفي الجرود الجبلية.

أحد هؤلاء الناجين، راجي، الشاب الثلاثيني من قرية الحطانية في ريف القدموس، والذي يعاني اليوم من كسر في مشط قدمه، ورضوض في جسده، لوعورة الطريق الذي سلكه في حرج قريته بحثاً عن الأمان، بعدما وصلت دبابات الفصائل السورية التابعة للإدارة الجديدة إلى مشارفها. لم يكن الشاب وحده، إذ رافقه طفلاه (سنتان، وست سنوات)، وأمه.

وهكذا، خرج كلّ أفراد العائلة من منزلهم داخل الحطانية، بعدما شاهدوا منازل “أول الضيعة” تحترق بمَن فيها، سالكين طريقاً غير مأهول يؤدي إلى الأحراج القريبة التي لا يمكن الآليات المرور عبرها، وبالتالي لن تطاردهم سيارات “الجيش الجديد”. لكن مَن هرب إلى البرية، لم يسلم من المطاردة، إذ كانت مُسيّرات “الشاهين” التابعة لـ”الهيئة” تحوم فوق رؤوس أهالي ريف القدموس وتستهدف تجمعاتهم، بينما تكفّلت راجمات الصواريخ المنصوبة على تخوم الجرد في استكمال المهمّة.

لم يستفق أهل الساحل بعد من هول الفاجعة

أمّا علي، من قرية اسقبلة في ريف القدموس أيضاً، فحاول جاهداً بعد هروبه من المقصلة داخل قريته، ألّا ينام في العراء؛ فهو مريض سرطان، ويجد صعوبة في الحركة والتنقّل، ومن المفترض ألّا يبذل جهداً فائقاً، وألّا يتمكّن البرد منه حفاظاً على سلامته. التحف علي بغطاء من المنزل، لعلّه الذكرى الأخيرة من أثاث البيت المحترق، وركض نحو مغارة في الجبل، ليجد مَن سبقه إليها من عائلات القرية، ويأخذ مساحته الصغيرة منها، في انتظار الفرج. يومان قضاهما علي في مغارة اسقبلة، أحدهما من دون طعام وبقليل من المياه، والآخر بحصة صغيرة من ربطة خبز حملتها جارتهم إلهام قبل خروجها من منزلها، وأخذت توزّعها على كل قاطني المغارة، والذين أصبحوا عائلة.

وإذ يُعدّ الخروج من المنزل فرصة للنجاة، فهو ليس سهلاً على كبار السن. ما يعرفه كثيرون أن أهل الساحل السوري، الريفيين البسطاء، كلّما زادوا في أعمارهم، زاد تمسّكهم بالأرض وارتباطهم بالبيت والحاكورة المجاورة، ولسان حالهم دائماً “ما بطلع لو على قطع راسي”؛ وربّما لهذا السبب، لم يقبل أبو أحمد وأم أحمد الخروج من البيت هرباً.

سمع الزوجان ما يتداوله أهل الريف المجاور، ومفاده أن فتح باب المنزل للفصائل المسلحة التي لم تأتِ للتفتيش والبحث عن المطلوبين فقط، كما قيل، هو بداية النهاية؛ فإذا دخل هؤلاء البيت، أطلقوا النار على البشر والحجر، وعاثوا فيه تخريباً، ثم قتلوا الرجال والشبان، والنساء اللواتي يحاولن إيقاف المجزرة بالصراخ والترجّي. ومن هنا، قرّر أبو أحمد إفراغ خزائن المطبخ الكبيرة من محتوياتها، وإزالة رفوفها، لتتّسع له ولزوجته. والغاية كانت البقاء في المنزل من دون حراك حتى لا يشعر أحد بوجودهما، ويقتحم مكانهما ويفظّع فيه.

أما هزار وابنتها ليلى، من ريف جبلة، فكانتا شاهدتين على مسرح جريمة مكتمل. شاهدت هزار كيف قُتل زوجها ووالدها ووالدتها أمام عينيها. وما إن بدأت تعلو أصوات الصراخ في البناء، هرعت هي وابنتها نحو السقيفة للاختباء بمشورة من علي (الزوج)، لكنها لم تكن تعلم أنها حين ستنزل بعد انتهاء الاقتحام ستكون الناجية الوحيدة وابنتها.

هي إذاً الفاجعة التي لم يستفق أهل الساحل بعد منها؛ لا بل إن كُثراً منهم لمّا يستوعبوا أن ما حصل قد حصل بالفعل، محاولين منح مساحة لاحتمال أن تكون الواقعة كابوساً. لكن أيّ صرخة سيستطيع هذا الكون حمل ثقلها، عندما يستفيق المفجوعون على جراحهم، ويمسحون دماء مَن رحلوا بالماء والصابون، ويزيلون ركام زواياهم من المنازل المحترقة، ويشرعون في العمل ليجدوا حطام محالّهم وأرزاقهم على كل رصيف؟

* الأخبار اللبنانية

You might also like