اتفاقٌ فضفاض بلا ضمانات: ما الذي ينتظر الأكراد؟
متابعات..| تقرير*
في وقت كانت فيه الأنظار مصوّبة إلى المجازر المرتكَبة بحقّ العلويين في منطقة الساحل، أبرمت «قوات سوريا الديموقراطية» ودمشق، اتفاق تسوية مفاجئاً بمضمونه كما بتوقيته. وجاء الاتفاق الذي وقّع عليه كلّ من مظلوم عبدي وأحمد الشرع، بينما كانت السلطات التركية، بمسؤوليها وإعلامها، تتّهم «قسد» ومن خلفها «حزب العمال الكردستاني»، بالتحريض المباشر على التمرّد ضدّ النظام في مناطق العلويين، والوقوف إلى جانب إيران وإسرائيل، علماً أن تقديرات سرت، بالتوازي مع ذلك، حول استحالة قبول الأكراد بتسليم سلاحهم بعد مجازر الساحل.
وإذ يكاد الاتفاق لا يخرج عن حدود الإنشائيات التي تحتاج إلى ترجمتها على أرض الواقع، فإن بيت القصيد، بالنسبة إلى الأكراد، يكمن في المادتَين الثانية والرابعة؛ إذ تتضمّن الأخيرة تنازلات نظرية «كبيرة جداً» من الجانب الكردي، من مثل تسليم المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز لقوات دمشق، فيما الفقرة الأهمّ فيه تشير إلى «دمج» المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة، من دون أن توضح طبيعة هذا «الدمج»، وما إذا كان يعني انخراط «قسد» الكامل في صفوف الجيش، أو بقاءها فصيلاً موازياً تحت إمرة مركزية واحدة، يكون الأكراد جزءاً منها.
ولا يقلّ البند الثاني أهميّة عمّا تقدّم، إذ يتمحور حول «الاعتراف» من جانب الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، بما سمّاه الاتفاق «المجتمع الكردي»، واعتبار هذا الأخير أصيلاً، وحماية حقّه في المواطنة، وحقوقه الدستورية الأخرى كافة. وإذا كانت المواطنة حقّاً طبيعيّاً لكلّ السوريين، فإن ترجمتها في نصّ دستوري يعدّ ذا أهمية بالنسبة إلى الأكراد، كون الدستور يفترض أن يتضمّن حقوقاً كاملة لهم في التحدّث والتعلّم بلغتهم في المدارس والجامعات الواقعة في مناطقهم.
على أيّ حال، يبقى واضحاً أن انخراط الأكراد في الدولة، بعد موافقتهم على حلّ فصائلهم المسلحة وتسليم المعابر وحقول النفط والمراكز العسكرية والمطارات والسجون وغيرها للدولة، لا يمكن أن يقابله ما هو أقلّ من الحقوق المشار إليها؛ وخلا ذلك، يكون الاتفاق مجرّد جس نبض لتطوّرات مستقبلية تعدِّل فيه أو ربّما تلغيه. أما في حال تطبيقه بتفاصيله المعلنة والمضمرة، فيشكّل خطوة كبيرة جداً نحو وحدة سوريا، وخصوصاً أن الدروز لا يمثلون محور ضغط كبير إلا عبر التهديدات الإسرائيلية، فيما العلويون تُركوا لمصيرهم من دون أيّ حماية لا داخلية ولا خارجية.
وثمّة مَن يتساءل في هذا الإطار: هل يعني تضمين الاتفاق، في بنده السادس، عبارة «دعم الدولة السورية في مكافحتها لفلول الأسد»، إشارة إلى اضطرابات محتملة على «الحدود الكردية» – السورية مع العراق، أم أن القوات الكردية قد تنتقل عند الضرورة لدعم قوات الشرع في ضرب الوجود العلوي في مناطق اللاذقية، رغم أن الأكراد و«حزب العمال الكردستاني» يشكّلون مع قسم كبير من العلويين الأتراك، جبهةً واحدة ضدّ الدولة التركية منذ 100 عام وحتى الآن؟ وهل يعني ذلك بداية شرخ في التحالف المشار إليه؟
لعلّ أبرز جوانب الضعف في الاتفاق، أن الدولة التي وقّعته لم تستقرّ بعد على أيّ أساس؛ فلا انتخابات ولا دستور ولا أيّ شيء آخر. ومن هنا، فإن ما أُعلن عنه لا يعدو كونه تفاهماً بين شخصين وفئتين من المجموعات السورية المسلحة، دوناً عن الآخرين من علويين ودروز ومسيحيين وكل السوريين غير المتشدّدين، والذين لا ينتمون إلى «هيئة تحرير الشام». ولذلك، لا يمكن للمكونات المختلفة أن تركن إلى وعود من الدولة، قبل أن ترتسم صيغة العقد الاجتماعي الجديد، بما يشمل ضمانات باحترام الحريات والهويات، وكتابة دستور عصري، وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية نزيهة، وهو ما يعدّ تحقيقه، في ظلّ طبيعة المجموعة الحاكمة، أمراً مشكوكاً فيه.
كما ثمّة نقطة أخرى تعكس توجُّساً مشروعاً، وهي مصير آلاف «الداعشيين» في السجون الكردية، والذين يقال إنه سيتمّ تسليمهم إلى الدولة، علماً أن هذا البند لم يتوضّح في الاتفاق، وربّما يكون مشمولاً بعبارة «دمج كل المؤسسات المدنية». ولعلّ مكمن الخطر هنا، أن هؤلاء المتطرّفين ينتمون إلى المدرسة نفسها التي تنتمي إليها الجهة التي ستتسلّمهم، ما يجيز طرح سؤال حول ما إذا كان أسرى «داعش» سيتحوّلون إلى جنود نظاميين في الجيش الجديد، على غرار وجود قيادات وأفراد فيه من جنسيات مختلفة، مثل الأويغور والتركمانستان والأوزبك، ليتّخذ الجيش المذكور صفة «العالمية» بدل أن يكون سوريّاً؟
أمّا على الصعيد الخارجي، فإن الانتقال إلى سلام بين مناطق الأكراد ومناطق حكم دمشق، يستدعي خروج القوات التركية من مناطق غرب الفرات كما شرقها، لانتفاء الخطر الذي يشكّله الأكراد السوريون عليها. لكن ذلك لا يعني أن الاتفاق تم رغماً عن تركيا، التي لم يبرز إعلامها، باستثناء صحيفة «حرييات»، الإعلان في صدر صفحاته الأولى، بل اكتفت الصحف الموالية بوصف الاتفاق بأنه بين الشرع و«المنظمة الإرهابية قسد»، كما لم تصدر تعليقات فورية من المسؤولين الأتراك ولا حتى من الكتّاب الموالين.
على أن أيّ اتفاق خطير كهذا، لا يمكن أن يخرج إلى الضوء من دون موافقة أنقرة، بل إنه قد يكون حصل على النحو الذي تريده تركيا، لتتفرّغ الأخيرة لتسوية المشكلة الأساسية التي تعاني منها مع «حزب العمال الكردستاني»، وإحكام تطويقها له، وإطلاق يدها في المرحلة المقبلة للقبول بنداء أوجالان، في مقابل منح الأكراد في تركيا حقوقاً لا تتجاوز بعض الفتات الثقافي.
كذلك، فإن الدور الأميركي واضح جداً؛ إذ لا يمكن للأكراد أن يتصرّفوا في أمر خطير كهذا، من دون علم واشنطن وموافقتها. وفي هذه الحالة، يفترض أيضاً أن يبادر الجنود الأميركيون، كما الأتراك، إلى الانسحاب من سوريا، ما يعني أن الاتفاق، في حال إتمامه، هو بمنزلة تسليم سوريا بالكامل لتركيا والولايات المتحدة، وخطوة على طريق سوريا خالية من أيّ بؤرة نفوذ لإيران وربما لروسيا. أمّا «المكاسب العربية» لكلّ من السعودية والإمارات أو حتى مصر، فليست معروفةً طبيعتها، إنْ وجدت أصلاً، فيما ستكون الحدود السورية مع العراق ولبنان موضع متابعة دقيقة.