الجزائر تتوغّل أفريقياً… وتنكفِئُ عربياً
متابعات..| تقرير*
كانت أجواء الفرح العارمة التي أعقبت تتويج مرشّحة الجزائر، سلمى مليكة حدادي، لمنصب نائبة رئيس «المفوضية الأفريقية»، في الـ15 من شباط الماضي في أديس أبابا، والذي جاء بمثابة إعلان عن «انتصار كبير» للدبلوماسية الجزائرية بعد منافسة مع دبلوماسيتي المغرب ومصر، أحسنَ تعبير عن الإحساس بالانفراج بعد سلسلة الضغوط الإقليمية التي ازدادت اشتداداً على الجزائر، في الأشهر الأخيرة، وبدأت تُظهرها في مظهر البلد المعزول أو «رجل أفريقيا المريض»، كما يحلو لبعض الصحافة المغربية أن تصف الجارة الشرقية. وكانت الحكومة الجزائرية قد حشدت كل قواها لتحقيق هذا الاختراق القاري، والذي شارك فيه رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، بنفسه، وهو ما يعكس إصراراً لديه على حضور قمة «الاتحاد الأفريقي» الـ38، تزامناً مع انتخاب المكتب التنفيذي للمنظمة الأفريقية، علماً أنه يُعدّ قليل السفر إلى الخارج.
والأكيد أن هذا الانتصار، على رمزيته، من شأنه أن يفاقم رغبة الجزائر في الترسّخ أكثر في الساحة الأفريقية والاستمرار في مزاحمة غريمها التقليدي، المملكة المغربية. لكن وبغضّ النظر عن التنافس المحموم بين البلدين الجارين، يبدو أن حراك الدبلوماسية الجزائرية في القارة السمراء بهذين الزخم والتصميم، يندرج في إطار أوسع بدأ منذ سنوات، كردّ فعلٍ على تنامي الأخطار المحدقة بالجزائر من كل الجوانب، وخصوصاً احتدام النزاعات المسلحة على حدودها، ولا سيما في منطقة الساحل وليبيا. إذ بعدما كانت الجزائر قد بادرت بعرض وساطتها لحل الأزمة في مالي، من خلال «إعلان 2015» والذي أُبرم في العاصمة الجزائرية، انقلبت السلطة المالية الجديدة على الجزائر بدعوى انحياز الأخيرة إلى «حركة الأزواد» المتمركزة في شمال مالي. وفي غمرة الانقلابات العسكرية في المنطقة، نشبت أزمة أخرى مع النيجر على خلفية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين.
وإزاء ذلك العداء المفاجئ من دولتين جارتين، كانتا تُعتبران صديقتين للجزائر، سارعت الحكومة الجزائرية إلى البحث عن منقذ لها من العزلة السياسية التي اعترتها، وهو الأمر الذي اتضحت ملامحه أكثر في ظل تأزم العلاقات من جديد مع فرنسا منذ إعلان رئيسها، إيمانويل ماكرون، انحيازه إلى المغرب في قضية الصحراء الغربية. وهذا ما قد يفسّر تحوّل الدبلوماسية الجزائرية إلى السعي لكسب حلفاء جدد في منطقة شرق ووسط أفريقيا، من خلال تكثيف جولات وزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، في الأسابيع الأخيرة إلى غينيا وجيبوتي وزامبيا وجنوب أفريقيا.
يندرج حراك الدبلوماسية الجزائرية في القارة السمراء في إطار ردّ فعلٍ على تنامي الأخطار المحدقة بالجزائر
ومع هذا الانفتاح في اتجاه القارة الأفريقية، ثمة مخاوف من أن يتم الأمر على حساب تموقع الجزائر في الساحة العربية؛ إذ بالرغم من أن التركيز على الساحة الأفريقية لم يمنع الجزائر من الانشغال بالهموم العربية والانخراط فيها، لكنه أبعدها شيئاً فشيئاً عن العمل العربي المشترك. وقد تجلّى ذلك خاصة في قلة حضور تبون في القمم العربية وحتى الإسلامية، وسط توجّس جزائري من قمم «الجامعة العربية»، علماً أن تبون اعتذر عن عدم حضور «القمة العربية الطارئة» التي انعقدت أمس في القاهرة، لبحث مستجدات القضية الفلسطينية، وأوفد إليها وزير خارجيته. وفي المقابل، وخارج الأطر العربية الرسمية، كان لممثل الجزائر في «مجلس الأمن»، عمار بن جامع، منذ تولي بلاده مقعد العضو غير الدائم فيه، نشاط مكثّف وغير اعتيادي طيلة الأشهر الماضية لنصرة القضية الفلسطينية وإدانة العدوان على غزة.
وإزاء ذلك، لا يعبّر الخبير الجزائري في الشؤون الأمنية، كريم خريّف، حيال تراجع حضور الجزائر في المؤسسات العربية، عن امتعاض كبير، معتبراً، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «فاعلية الجزائر ليست في قمم الجامعة العربية بل في الميدان». أمّا حول موقفها من القضية الفلسطينية، فيشير خريّف إلى أن «الجزائر بترؤسها مجلس الأمن وتواجدها فيه خلال سنة 2024 فعلت ما لم تفعله الدول العربية الأخرى للقضية الفلسطينية»، معتبراً أن «إيفاد الجزائر وزير خارجيتها إلى دمشق، ثم إلى بيروت، بعد أيام قليلة على هروب بشار الأسد دليل على قدرة الجزائر على استعادة المبادرة عربياً»، على حدّ قوله.
ومع ذلك، لم يستسغ الكثيرون عدم ترخيص السلطات الجزائرية مثلاً للتظاهرات على أراضيها للتعبير عن مساندة الشعب للمقاومة الفلسطينية، توافقاً مع الموقف الرسمي المزعوم. كما يذهب بعض المراقبين إلى استشفاف تخفيف في اللهجة الرسمية بشأن القضية الفلسطينية، ولا سيما بعد التصريحات التي أدلى بها تبون في أوائل الشهر الماضي، لجريدة «لوبينيون» الفرنسية، تحدّث فيها لأول مرة عن أن «الجزائر ستكون على استعداد لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل في اليوم ذاته، الذي ستقوم فيه دولة فلسطينية كاملة»، من دون تعداد مواصفات هذه الدولة أو حدودها.
وفي نظر بعض المعلّقين، فإن مثل هذا الخطاب «يكسر» تلك الصورة المعروفة تاريخياً عن الجزائر التي لطالما دافعت عن فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني، فيما يعزو آخرون «الفتور» في الموقف الرسمي الجزائري إلى «تنامي شعور بالخيبة من المآل الذي آلت إليه الأوضاع ومن العجز العربي العام وموقف البلدان المطبّعة والتي تتماهى خطاباتها مع سردية الاحتلال… وهذا ما تعكسه قنوات التلفزيون الخليجية التي يلتقطها الجزائريون».
على خط مواز، وتعبيراً عن الإحساس نفسه بالخيبة، كتب الوزير الأسبق، محي الدين عميمور، على حسابه في «فيسبوك»، تعليقاً على مشاركة الجزائر في قمة القاهرة: «أملي ألا تشارك الجزائر في القمة إلا بمستوى متدنٍّ حتى لا تكون في وضعية شاهد الزور أمام عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية». وفي أسلوب أكثر حدّة يعكس انطباعات قطاع واسع من الرأي العام، علّق الصحافي، جمال زروق، على قمة الرياض التي انعقدت في الـ21 من شباط تمهيداً لقمة القاهرة، بالقول إن «ثمانية ديكتاتوريين متصهينين (مجلس التعاون الخليجي+مصر+الأردن) يجتمعون في الرياض لمساعدة أميركا على تجريد غزة من سلاحها. لم يعد للجزائر ما تفعله في الجامعة العربية».
* الأخبار