هكذا يسقط الغزّيون التهجير: صناعة الحياة من العدم
متابعات..| تقرير*
احتلّت زيارة رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، لواشنطن المرتبة الرابعة على مستوى لقاءات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بقادة دوليين منذ تنصيبه. وإذ لم تخلُ العلاقات بين واشنطن ونيودلهي من “منغّصات” في عهد الإدارة الأميركية السابقة، على غرار الدعوى المقامة أمام إحدى محاكم نيويورك ضد رجل الأعمال الهندي، غوتام أداني، بتهم رشوة واحتيال، فقد أعطى مودي والعهد الأميركي الجديد إشارات إلى تجاوزها، وذلك لحساب التفرغ لحل مسائل خلافية، يراها الوافد الجمهوري إلى البيت الأبيض أكثر جوهرية كملفَّي التبادل التجاري والهجرة. وهي مسائل لا تكاد تنجح في كثير من الأحيان في إخفاء حجم التماهي السياسي والأيديولوجي بين الزعيمين اليمينيين، سواء لناحية تعاملهما مع مواطنيهما من المسلمين، أو لناحية تلاقيهما مع الأهداف الإسرائيلية في الشرق الأوسط.
من هنا، لم يكن مستغرباً أن يستبق مودي لقاءه بـ”توأمه السياسي” في واشنطن، بسلسلة قرارات كان من ضمنها الكشف عن نية الحكومة الهندية إدراج بنود في موازنتها الجديدة تتضمن خفض الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية، بما في ذلك الدراجات النارية والمشروبات الكحولية وغيرها من السلع، فضلاً عن السماح للجيش الأميركي بتنظيم رحلات إجلاء لمهاجرين هنود دخلوا أراضي الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، كانت أولاها شملت ما لا يقل عن مئة منهم مطلع شباط الجاري. والجدير ذكره، هنا، أن ترامب سبق أن خلع على مودي لقب “الصديق”، على رغم وصفه للبلد الآسيوي بـ”ملك الرسوم الجمركية”، في إشارة إلى انزعاجه من القيود الجمركية الهندية على بعض الصادرات الأميركية، والمقدّرة بنسبة 70%، والفائض الذي تسجّله الهند في تبادلاتها التجارية مع الولايات المتحدة.
التجارة أولى الأولويات
استتباعاً لـ”التعهدات الكلامية” على الصعيدين التجاري والعسكري، والتي قطعها مودي لترامب خلال مكالمة هاتفية عقب فوز المرشح الجمهوري بالسباق الرئاسي الأميركي قبل أسابيع، جاءت مخرجات اجتماع الرجلين قبل أيام في البيت الأبيض. وفي موازاة تكهنات حول ضغوط قد تمارسها “أميركا ترامب” على الهند للجمها عن الانسياق خلف مساعي تكتل “بريكس”، والرامية إلى الحد من استخدام الدولار في التبادلات التجارية الدولية، أو تشجيعها لتكون “الملاذ الاستثماري الآسيوي” للشركات الأميركية، بدلاً من الصين، تتالت الأنباء، ومعظمها على لسان ترامب نفسه، في شأن موافقة الهند على تخفيف الرسوم الجمركية على المنتجات الأميركية، وتعزيز وارداتها من الغاز والنفط من الولايات المتحدة، في مقابل موافقة إدارة ترامب على بيع طائرات إف-35 للهند، كجزء من تطلعاتها في الفترة المقبلة إلى إبرام اتفاقية دفاعية، سوف تضاف إلى ثلاث اتفاقيات مشابهة في إرث الرجل، كان قد أبرمها مع الجانب الهندي خلال ولايته الأولى.
إزاء ذلك، تقاطعت التحليلات عند اعتبار نتائج الزيارة إرساء لـ”خارطة طريق للتعاون العسكري والتجاري” بين البلدين للعقد القادم، ولا سيما أن ترامب أعلن بالفعل أنّه يجري العمل على إتمام العديد من الصفقات التجارية، في موازاة الكشف عن رغبته في أن تشتري الهند، وهي أكبر مشترٍ للسلاح في العالم، المزيد من الأسلحة من بلاده، وذلك على أمل خفض العجر التجاري مع الهند، والمقدّر حالياً بنحو 46 مليار دولار، ومضاعفة حجم التجارة البينية إلى نحو 500 مليار دولار بحلول عام 2030. وفي هذا الإطار، نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” عن مصادر مطّلعة قولها إنّ زيارة مودي لواشنطن جاءت بقصد “استرضاء” الرئيس الأميركي، وتحديداً لناحية تلافي وقوع حرب تجارية مع واشنطن، بعد تهديد ترامب بفرض “تعرفات جمركية جوابية مضادّة” على الهند ودول أخرى، مشيرة إلى أنّ توقيع زعيم خامس أكبر اقتصاد في العالم على اتفاقيات في مجالي التجارة والدفاع، وتقديمه تنازلات في ملفَّي الهجرة والرسوم الجمركية، ليسا بعيديْن عن هذه المساعي.
عكست الاتفاقات العسكرية التي جرى التباحث في شأنها في “قمة واشنطن”، حجم التعويل الأميركي على دور أكبر للهند
وبالحديث عن كواليس الزيارة، أشارت بريانكا كيشور، من شركة “Asia Decoded” للبحوث، إلى عدم قدرة مودي على مقاومة الضغوط الأميركية لدفعه إلى شراء المزيد من الغاز الأميركي، في حين رأى رئيس قسم الاقتصاد في برنامج الهند وآسيا الناشئة التابع لـ”مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، ريتشارد روسو، أنّ “خطب ود الرئيس ترامب في وقت مبكر (من عمر ولايته)، والذي قد يتم من خلال شراء سلع أميركية جديدة وحل بعض مشكلات التوتر التجاري بين البلدين، من شأنه أن يساعد في تحديد مسار إيجابي نسبياً على مستوى العلاقات الثنائية على مدى السنوات الأربع المقبلة”.
وفي مؤشر إلى إمكانية عدم تراجع ترامب عن تشدّده التجاري مع الهند، كشفت وكالة “بلومبيرغ” أنّ مودي خرج من لقاء القمة في واشنطن، وفي جعبته “قائمة من الواجبات (المطلوبة أميركياً)”، مضيفة أنّ “كل التنازلات التي قدّمها هناك، لم تكن كافية”. وأفاد مصدر أميركي مسؤول، الوكالة، بأنّ التخفيضات الجمركية التي أعلنتها نيودلهي على بعض الصادرات الأميركية “بدت متواضعة، ولكنها لاقت استحسان” إدارة ترامب. وأكّدت أنّ “ما تمخّض عنه أول اجتماع بين الزعيمين منذ عام 2020، أظهر تصميم ترامب على قلب الواقع القائم للعلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وكل دول العالم، حتى الشركاء الاستراتيجيين منهم”، معرّجة على التدابير الجمركية المتشدّدة التي لوّح بها قبل ساعات من لقائه ضيفه الهندي، وعدم تورّعه عن انتقاد سياسات نيودلهي التجارية بشكل صريح في المؤتمر الصحافي الذي جمعه به. وفي حديث إلى “بلومبرغ”، أكّدت كبيرة الاقتصاديين في شركة “Nomura” Singapore Ltd”، سونال فارما، أنّ “الهند لا تزال في مرمى نيران ترامب في (حرب) التعرفات الجمركية المتبادلة، رغم تأكيد البلدين على شراكتهما الاستراتيجية”، ملمّحة إلى ضعف موقف الهند في المحادثات التجارية مع واشنطن، بسبب حاجتها الحيوية إلى السوق الأميركي.
التعاون العسكري: نظرة موحّدة إلى الصين؟
وفي ما يتصل بتعهداتهما بتعزيز تعاونهما في مجال الدفاع والتكنولوجيا، أشارت مجلة “فورين بوليسي” إلى عقبات عدة يمكن أن تعترض سبل تنفيذ هذه التعهدات “الأكثر أهمية” في قمة ترامب – مودي، وأولاها ما يتعلق بحجم التعاون العسكري الكبير بين الهند وروسيا، التي تتربع على عرش أكبر مورّد للأسلحة إلى نيودلهي، وثانيتها ترتبط بالثمن المرتفع للأسلحة الأميركية. وتشير المجلة إلى أنّ الولايات المتحدة “حرصت منذ وقت طويل على إزاحة روسيا” عن هذه المرتبة للحلول مكانها، مضيفة أن خيار بيع معدات عسكرية أميركية لصالح نيودلهي “ينطوي على قدر من التعقيد، بسبب الروابط العسكرية الواسعة بين الروس والهنود، وما يترتب عليها من مخاوف من سرقة التكنولوجيا الخاصة” بمعدات متطورة على غرار طائرة إف- 35. وفي هذا الإطار، يرى مدير معهد “جنوب آسيا”، التابع لـ”مركز ويلسون” للدراسات الاستراتيجية، مايكل كوغلمان، أنّ “الإطار الزمني لبيع إف – 35 للهند، لا يزال غير واضح”، متوقّعاً أن يبادر ترامب إلى “الدفع بقوة لإتمام هذا الأمر لما يمكن أن يحقّقه من إيرادات للولايات المتحدة”.
من ناحية أخرى، عكست الاتفاقات العسكرية التي جرى التباحث في شأنها في “قمة واشنطن”، حجم التعويل الأميركي على دور إقليمي ودولي أكبر للهند، يتجاوز مدياتها التقليدية في جنوب آسيا إلى منطقة الشرق الأوسط، ويتخذ من مواجهة النفوذ الصيني عنواناً له. وفي هذا الصدد، توقفت مجلة “فورين بوليسي” عند صعود ذلك الدور بشقّه العسكري، مع انضمام الهند في السنوات الأخيرة إلى نادي مصدّري السلاح، وتحوّلها إلى أحد مورّدي الصواريخ والمعدات العسكرية إلى عدد من حلفاء واشنطن، ليس فقط على مستوى الأقطار الجنوب آسيوية ذات العلاقات المتوترة مع الصين، كفيتنام والفيليبين، بل على مستوى الشرق الأوسط أيضاً كالسعودية، وإسرائيل، ومصر.
وأشارت المجلة إلى أن الصفقات الأخيرة من شأنها أن “تعزز علاقات الهند مع الإدارة الأميركية الجديدة، التي تتوق إلى رؤية حلفائها وشركائها يكثّفون جهودهم من أجل تقاسم الأعباء الأمنية (الدولية) معها”، في حين تظهر رغبة نيودلهي في “تعزيز قدرة أصدقاء واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على صد الاستفزازات الصينية، بما يخدم المصالح الأميركية”. ورأت “فورين بوليسي” أنّ تسارع وتيرة النشاط الهندي في الآونة الأخيرة، على المستويين العسكري والأمني، في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً لناحية مواصلة اشتراك الهند بصورة غير رسمية في جهود تحالف “حارس الازدهار” الذي تقوده واشنطن، “سيطرب آذان إدارة ترامب”، لافتة إلى أن العلاقات الهندية – الأميركية يقودها “اعتقاد مشترك بأن الصين تشكل تهديداً متزايداً للمصالح الاستراتيجية لكلا البلدين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”.
وتابعت المجلة أنّ الشراكة الاستراتيجية الأميركية مع الهند أصبحت “قضية استراتيجية تحظى بتأييد من الحزبين”، منوّهة إلى وجود سوبرامانيام جايشانكار الذي يُعد أحد أهم المتحمّسين لتعزيز علاقات بلاده مع واشنطن، في سدة وزارة الخارجية الهندية، في موازاة وجود ماركو روبيو، الذي سبق أن قدّم مشروعاً في الكونغرس لتمتين الروابط العسكرية مع نيودلهي، على رأس الدبلوماسية الأميركية.
ويضاف إلى ما تقدّم، بُعد آخر من التقاطعات الاستراتيجية بين واشنطن ونيودلهي، لا يقلّ أهمية، واستقطب حيزاً من النقاشات خلال قمة واشنطن، وهو مشروع “الممر الهندي” (يمرّ بإسرائيل)، والذي وضعت مجلة “ناشونال إنترست” إحياء الحديث عنه في خانة ما وصفته بـ”الالتزام المشترك والقوي بإنجاز الطريق الذهبي الجديد” من قبل الطرفين، مشدّدة على أن الممر يشكل “رافعة للروابط الاقتصادية والأمنية بين منطقة المحيطين الهندي والهادئ والمحيط الأطلسي”، ويُعد “بديلاً أكثر إنصافاً وقابلية لإحداث تغيير في واقع المنطقة”، مقارنة بمبادرة “طريق الحرير” الصينية.
وبالحديث عن الحسابات الهندية في العلاقة مع واشنطن، أشارت مجلة “فورين أفيرز” إلى أن الهند “تأمل بأن يفي ترامب بوعوده الانتخابية” المتعلقة بوقف الحرب في الشرق الأوسط وأوكرانيا”، مضيفة أنّ حرب غزة والاضطرابات الإقليمية المصاحبة لها “استنزفت جانباً من الموارد الدبلوماسية والأمنية البحرية المحدودة للهند، وأثارت حالة من عدم الاستقرار في منطقة تشكّل مصدراً مهماً للطاقة والوظائف والتحويلات المالية للهند”، فيما تسبّبت الحرب في أوكرانيا بـ”حدوث توترات بين الهند والغرب” من جهة، و”زيادة اعتماد موسكو على الصين، بما يعنيه ذلك من فقدان روسيا لدورها التقليدي كعامل توازن بالنسبة إلى نيودلهي في وجه بكين”، من جهة ثانية. ولفتت المجلة الأميركية إلى أنّ صنّاع القرار في الهند “يأملون في أن يؤدي إنهاء هذه الحروب إلى تجدد التركيز الأميركي على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ورفع العقوبات المفروضة على روسيا، بما يسهّل التعامل مع الروس، والحد من علاقاتهم مع الصين”، إلى جانب تطلعهم إلى تبلور “مشهد جيوسياسي جديد في الشرق الأوسط يحمل المزيد من الفرص الاستراتيجية والاقتصادية للهند”.
* الأخبار