كل ما يجري من حولك

بيت حانون.. لم يبقَ إلا بيت واحد… ومقاومة وعودة شبه كاملة

40

متابعات..| تقرير*

تدفع مدينة بيت حانون شمالي قطاع غزة، في كل مرحلة نضالية، الثمن مربّعاً؛ ذلك أنها تقع على الحافة الشمالية، وتجاور منازلها وأحياؤها مستوطنات «غلاف غزة» المأهولة ومواقع جيش العدو الأكثر حساسية وأهمية، وعلى رأسها مستوطنة «سديروت» وموقع الإرسال وحاجز بيت حانون (إيرز) الذي يربط القطاع بالأراضي المحتلة. وفي «طوفان الأقصى»، صبّ جيش الاحتلال على المدينة جلّ غضبه في الساعات الأولى التي أعقبت العبور الكبير، إذ بادرت الطائرات الحربية إلى قصف عشوائي على كل من يتحرّك في شوارعها، قبل أن تشرع في عملية تهجير كبرى في صباح الثامن من تشرين الأول 2023. هكذا، نزح أكثر من 50 ألفاً من أهاليها، إلى وسط مخيم جباليا وغرب المدينة، ومن هناك إلى محافظات جنوب القطاع، فيما بدأت عملية تدمير كبرى لمنازل المدينة وطرقاتها استمرت لثلاثة أشهر متواصلة.

وكشف التراجع الجزئي للعدو مطلع 2024 عن حجم مهول من الخراب، حيث مُسحت الأحياء الشرقية والشمالية من بيت حانون عن وجه الأرض، إلى الحد الذي تحدّثت فيه مؤسسات دولية أجرت عمليات مسح جوي عبر الأقمار الصناعية، عن أن منزلاً واحداً في كل المدينة نجا من الخراب الجزئي أو الكلي. وفي زيارة «الأخبار» الميدانية آنذاك، بدا واضحاً أن قلب بيت حانون وشوارعها الرئيسية، المصريين والبنات والبورة، تحوّلت إلى أكوام من الركام، رغم أنه حتى ما قبل التوغّل الأخير الذي سبق وقف إطلاق النار، كانت الأحياء الغربية من مناطق عزبة بيت حانون ومدينة العودة السكنية، تحافظ على نحو 60% من مبانيها سليمة.

وطوال أشهر التوغّل الثلاثة في مطلع العام الماضي، والتي تركّز فيها زخم الضغط العسكري البري على بيت حانون وبيت لاهيا، لم تهدأ وتيرة العمل العسكري المقاوم. وتصدّرت عمليات التصدي النوعية في بيت حانون، والتي أخذت طابع الكمائن المحكمة، بيانات فصائل المقاومة، ولا سيما «كتائب القسام» و«سرايا القدس»، فيما ظلّت المدينة هدفاً لعمليات توغّل محدودة وخاطفة، لم يخرج منها العدو من دون مشاغلة أوقعت أعداداً من القتلى والمصابين في قواته. أما الثابت الذي ظل رفيقاً للمشهد المقاوم هناك حتى اليوم الأخير من الحرب، فهو تمكّن المقاومين من إطلاق رشقات صاروخية أسبوعية في اتجاه مستوطنات غلاف القطاع، في كل مرة كانت تعلن فيها الجبهة الداخلية الإسرائيلية عن السماح للمستوطنين بالعودة إلى تلك المستوطنات، في ما مثّل رسالة متكررة بفشل مزاعم القضاء على المقاومة في بيت حانون.

يمارس الأهالي أكبر عملية تمرّد على الموت والخراب والتهجير

على أن المدينة توارت عن المشهد لبضعة أشهر، وخصوصاً بعد إعلان جهاز الأمن العام الإسرائيلي تمكّنه من اغتيال قائد «القسام» في المدينة، «أبو حمزة فياض»، ثلاث مرات. وخلال الأشهر التي انتقل فيها الثقل العسكري الميداني إلى جنوب القطاع، وتحديداً خانيونس ثم رفح، استعاد أهالي بيت حانون شيئاً من الحياة رغم صعوبة الظرف الميداني، حيث ظلت المدينة نقطة قتال خطيرة يُشار إليها باللون الأحمر. وفي ذلك الحين، بقي جيش العدو يتعامل مع بيت حانون التي أنفق فيها قدراً هائلاً من مجهوده الحربي، على أنها أرض رخوة، بوسعه العودة إليها وقت ما يشاء من دون أن يواجَه بمقاومة وتصدٍّ مؤثر وحقيقي، غير أن الأشهر الثلاثة التي سبقت التوصل إلى وقف إطلاق النار، والتي تخللتها عملية التهجير الكبرى لنحو 160 ألفاً من أهالي محافظة شمال القطاع، كشفت زيف التقديرات الإسرائيلية، في تلك العملية التي نفذ فيها جيش الاحتلال «خطة الجنرالات».

إذ بدّد العدو أشهراً طويلة من العملية البرّية في تدمير وتخريب مخيم جباليا ومدينة بيت لاهيا وأحياء التوام والصفطاوي وبير النعجة، وأجّل العمل في بيت حانون إلى المرحلة الأخيرة، على اعتبار أنها حيز ميداني منهك وسهل. وكانت المفاجأة أن بيت حانون بقيت العقدة الأكثر صعوبة، حيث واصل المقاومون الاشتباك المؤثر حتى اليوم الأخير من القتال، وبدا واضحاً أن المقاومة هناك طوّرت تكتيكاتها، وعالجت العجز اللوجستي عبر إعادة تدوير الأسلحة والقنابل والصواريخ الإسرائيلية التي لم تنفجر. وخلال ثلاثة أسابيع من القتال، ضاعف حجم الخسائر في صفوف ضباط العدو وجنوده النقمة في الإعلام الإسرائيلي حول جدوى العمل العسكري في مدينة من المفترض أنه تم تطهيرها قبل عام كامل.

إذ أقر جيش الاحتلال بسقوط أكثر من 15 قتيلاً من جنوده والعشرات من الجرحى في كمائن شديدة التعقيد وعمليات اشتباك والتحام مباشر مع القوات الراجلة التي لم تتقدم شبراً واحداً قبل أن تمهّد المنطقة بالنار بخمسة مستويات، تبدأ بالقصف المدفعي ثم بالطائرات الحربية، ثم الاستهداف بالطائرات المسيرة، تجاه كل من يتحرك، ثم بالروبوتات المفخّخة، وصولاً إلى التمشيط الآني بطائرات «الكوادكابتر». ووضعت المقاومة الكرزة على طبق الخسائر البشرية الإسرائيلية باغتيال قائد كتيبة في لواء «ناحل» المسؤول عن عملية اغتيال القائد الشهيد يحيى السنوار في مدينة رفح.

وفي اليوم التالي لوقف إطلاق النار، خرج إلى الميدان أبو حمزة فياض، قائد المعركة الذي استطاع أن يسبق العدو طوال الحرب بخطوات.
واليوم، عاد أهالي المدينة التي تزيّنت جدرانها المتبقية بصور قادة المقاومة، وعلى رأسهم السيد الشهيد حسن نصر الله، والسنوار، والسيد عبد الملك الحوثي. ويمارس الأهالي حالياً هناك، أكبر عملية تمرّد على الموت والخراب والتهجير، حيث افتُتحت بسطات الخضار والفواكه على جانبي الطريق، وبدأ المبادرون والأهالي بحفر الآبار لتأمين المياه. أما العائلات، فقد نصبت كل منها خيمتها فوق الركام. وفي طريق العودة من المدينة، التقت «الأخبار» الشاب أحمد الكفارنة، وسألته «لماذا عدتم؟»، فكان جوابه: «نحن لم نغادر أصلاً. بيت حانون هي أهلها الذين بنوها وسيبنونها مجدداً… إنا منها وإنا إليها راجعون».

* الأخبار البيروتية
You might also like