كل ما يجري من حولك

الأنقاضُ «تلتهمُ» جثامين الشهداء: لا معدّات ثقيلة إلى غزة

43

متابعات..| تقرير*

«أسفل هذا الركام يرقد عبد الحميد وعبد الرحيم شحيبر»؛ عبارة لم يجد وائل شحيبر (56 عاماً) عزاءً سوى في خطّها على سقف منزله المدمّر في حي الشجاعية شرق غزة. وهو لم يكن يكتبها للعابرين ولا للكاميرات، بل للزمن، ولكي يعلم من يأتي بعده أنه تحت ذلك الخراب، ثمة قلبان توقفا عن النبض ذات مساء من أيام آذار 2024، بعدما سقط صاروخ إسرائيلي على منزله، ودفن ابنيه الشابين عبد الحميد وعبد الرحيم تحت الأنقاض.

أمام ركام بيته، نصب وائل خيمةً، مصراً على البقاء حتى استعادة جثماني ولديه. في الصباح، يمسك معوله، محاولاً رفع الحجارة الثقيلة، حافراً بين الإسمنت المنهار، ومتلمّساً بقايا ذكرياته العالقة تحت الركام. ومساءً، يجلس عند باب خيمته، محدقاً في الظلام، ومحدّثاً ولديه وكأنهما يسمعانه: «أحاول أن أكون قوياً كما كنتما تريانني دائماً، لكني تعبت يا عبد الحميد… تعبت يا عبد الرحيم…». على أنّ محاولاته إخراج الجثمانين بيديه العاريتين وبأدوات بسيطة، لا تزال تبوء بالفشل. وعلى الرغم من مساعي جيرانه لتقديم المساعدة له، فإنّ الكتل الخرسانية الضخمة تحتاج إلى معدات ثقيلة لرفعها، فيما يمنع الاحتلال دخولها إلى القطاع.

يقول وائل في حديثه إلى «الأخبار»: «لو كان هؤلاء أبناء الإسرائيليين، هل كانوا سيتركونهم هكذا؟ هل كانوا سيمنعون المعدات عنهم؟ أي قسوة هذه؟». ويشير إلى أنه في إحدى الليالي، جاءه أحد أصدقائه قائلاً: «وائل، لا فائدة من البقاء هنا، عد معنا»، ليهز المخاطَب رأسه ببطء متسائلاً: «وأتركهما وحدهما؟ ماذا لو ناديا عليّ من تحت الأنقاض؟ ماذا لو كانا ينتظرانني؟ لا، سأبقى هنا… إلى أن يعودا إلي، أو أذهب إليهما».

بلغ عدد المفقودين في قطاع غزة نحو 14 ألفاً منذ بدء الحرب

وتنسحب معاناة وائل على مئات العائلات في غزة، والتي تحرس أنقاض منازلها، متمسّكة بأمل انتشال أحبائها من تحت الركام قريباً. في حي الزيتون شرق مدينة غزة، تقف حسنة عاشور (58 عاماً) بين الأنقاض، وتحدق في الحطام الذي كان يوماً منزلها. ومنذ أن قُصف في كانون الأول 2023، وهي تعود إليه يومياً، تبحث عن أثر لزوجها، محمد، الذي فضّل البقاء في البيت، بعدما طلب منها النزوح جنوباً مع أبنائهما الثلاثة، قائلاً: «اذهبي أنت والأولاد، سأبقى هنا… لا أستطيع مغادرة غزة».

وبعد 15 شهراً من النزوح، عادت حسنة إلى بيتها، غير قادرة على تقبّل فكرة أن زوجها لا يزال هناك، تحت الإسمنت المتكسّر، من دون أن يتمكن أحد من انتشاله. هنا، تحرك بيديها حجارة متناثرة، وتنفض الغبار عن قطعة قماش علقت بين الركام. «كان حسن يرفض الرحيل، ويقول لي: لا أريد أن أموت مشرّداً بعيداً عن بيتي، إن كان مقدّراً لي الموت، فليكن هنا»، تقول عاشور لـ»الأخبار».

وتضيف بصوت مرتجف: «حتى الموت لم يكن رحيماً به… حتى جثمانه لم يسمحوا لي باستعادته»، متسائلةً عن «عدد الموتى الذي يحتاج إليه الإسرائيليون قبل السماح بدخول المعدات». وكغيرها من الغزيين، تطالب عاشور بإدخال المعدات الثقيلة على الفور، مؤكدةً أنّ كلّ ما يريده أبناء القطاع «هو دفن موتاهم بكرامة». وتتابع وهي تشير إلى الجدران المهدّمة من حولها: «لو كان هذا المنزل في أي مكان آخر في العالم، لكانت الجرافات هنا منذ اليوم الأول، لكننا في غزة… هنا الموتى لا يُسمح لهم بالمغادرة».

14 ألف مفقود

وفي حديث إلى «الأخبار»، يؤكد المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل الثوابتة، وجود نحو 14 ألف مفقود في القطاع منذ بدء الحرب الإسرائيلية، يُرجّح أن أكثر من 10 آلاف منهم قضوا تحت الأنقاض، في حين لم تتمكن فرق الإنقاذ، منذ وقف إطلاق النار في 19 كانون الثاني الماضي، من انتشال أكثر من نحو 600 جثمان، بسبب النقص في المعدات. ويأتي ذلك على الرغم من أنّ اتفاق وقف إطلاق النار ينص على السماح بإدخال المعدات الثقيلة إلى القطاع، للمساعدة في إزالة الركام والبحث عن المفقودين.

لكنّ مماطلة إسرائيل في تنفيذ هذا البند أدّت إلى تفاقم الأزمة، ما دفع حركة «حماس»، في 10 شباط، إلى تعليق إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين بموجب الاتفاق.
ويحذر الثوابتة، في حديث إلى «الأخبار»، من أنّ تأخير انتشال الجثامين «يمثّل كارثة إنسانية تتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً»، مشيراً إلى أن مئات العائلات الفلسطينية تعيش وسط أنقاض منازلها، منتظرة بفارغ الصبر العثور على أحبائها ودفنهم بكرامة. وطبقاً للمصدر نفسه، وصل إلى غزة، حتى اللحظة، ما لا يتجاوز الـ14 شاحنة، وهي قديمة ومتهالكة، وغير صالحة لرفع الركام أو المساعدة في عمليات الإنقاذ. وفي خضمّ ذلك، تعمل طواقم الدفاع المدني بحذر شديد خشية وقوع انهيارات جديدة أو انفجارات ناتجة من الذخائر غير المنفجرة أسفل الركام، وسط افتقارها للمعدات اللازمة وأدوات الحماية الشخصية، ما يعرضها لخطر مستمر.

* الأخبار البيروتية
You might also like