ترامب متمسّكٌ بـ«صفقة غزة»
متابعات..| تقرير*
يصل وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، مساء غد، إلى إسرائيل، المحطّة الأولى في جولة إقليمية ستشمل إلى تل أبيب، كلًّا من الرياض وأبو ظبي. ويبدو عنوان الزيارة واضح الدلالة: إطلاق سراح الأسرى الأميركيين وجميع الأسرى الآخرين المحتجزين لدى حركة «حماس»، والمضيّ قدماً إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار. على أن الجولة تبدو محدّدة النتائج مسبقاً، وهو ما بدأ يترجَم بالفعل، بعد توصُّل العدو الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية إلى تسوية أزمة المرحلة الأولى، والتي هدّدت بعودة الحرب على قطاع غزة، قبل أن يقرّر الطرفان العودة إلى تنفيذ التزاماتهما، ولا سيما إسرائيل التي كانت تمنّي النفس بنتائج مغايرة.
ومنذ الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة، يسير الطرفان في درب مليء بالتحدّيات والعراقيل والإرادات المتناقضة. وقد سعت إسرائيل إلى التملّص من التزاماتها أو تأخير تنفيذها منذ اليوم الأول للإعلان عن الاتفاق، كونها «اضطرّت» إلى وقف الحرب التي لم تحقّق عبرها الكثير من أهدافها. فمن جهة، كان الجيش عالقاً في معارك بلا فائدة وبلا أهداف واضحة، فيما دخل العامل الأميركي الجديد بقوّة على خط المواجهة، ليفرض أجندته الخاصة، والتي تعكس خليطاً معقّداً من المصالح الاستراتيجية ومخطّطات الرئيس دونالد ترامب الشخصية، من جهة أخرى. وفرض ذلك على الجانب الإسرائيلي «القبول» بوقف إطلاق النار، على أن يحدّد لاحقاً، وفقاً للمتغيّرات، ما يجب وما يمكن أن يقدِم عليه.
أمّا ترامب، الذي أراد أن يضع بصمته على الأزمة، فقد عمل على تحويل الصراع إلى أداة لتحقيق أهدافه السياسية والاستراتيجية. وبذلك، أصبحت واشنطن طرفاً رئيسيّاً في إدارة الاتفاق، ليس فقط عبر الضغط على الأطراف للالتزام به، بل أيضاً من خلال إعادة تشكيل مسار الحلّ بما يتماشى مع رؤيتها وأولوياتها. لكن الكثير من هذه الأولويات كانت مدفوعة بمصالح شخصية؛ إذ سعى ترامب إلى استغلال الملف الفلسطيني – الإسرائيلي لتحقيق مكاسب سياسية داخلية، وتعزيز صورته كمحرّر للأسرى الأميركيين، ومهندس السلام من خلال خطط ومشاريع من «خارج الصندوق»، من مِثل ترحيل الفلسطينيين والسيطرة على قطاع غزة، وإن جاءت هذه المقاربة عمليَّا على حساب استقرار المنطقة، ولمصلحة دفعها إلى مزيد من التأزّم.
يتركّز الضغط الأميركي على الأطراف في المنطقة، وعلى إسرائيل تحديداً
من جهتها، تلقّفت حركة «حماس» المقاربة الأميركية الجديدة، وقرّرت استغلالها إلى أقصى حدّ ممكن. إذ أظهرت، في خلال المفاوضات التي تقرّرت تجزئتها، «تعنتاً» عند مواقف ومطالب، من شأنها أن تبدّد الكثير من المكاسب الإسرائيلية خلال الحرب، وفي أساسها الانسحاب شبه الكامل من قطاع غزة، بما يشمل معبر رفح ومحورَي «فيلادلفيا» و»نتساريم» والعودة إلى شمال القطاع، وهو ما كان يُعدّ، من ناحية إسرائيل، خطوطاً حمرًا، لا يمكن ولا يسمح بتجاوزها.
لكن زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية لواشنطن، و»الحفاوة» التي استقبل بها من جانب ترامب، وعرض هذا الأخير «مشاريع خيالية» على الملأ، ولا سيما ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة، جاء ليعيد الأمل في تل أبيب بأن ما «اضطرّت إليه»، أصبح في إمكانها الالتفاف عليه، وحل المشكلة بـ»الخلاص المطلق» من الفلسطينيين، وترحيلهم إلى خارج القطاع. إلّا أن «رؤية» كهذه، لا تتحقّق بالضغط السياسي والاقتصادي وفرض الإرادات، ما لم تكن لها مقدماتها الميدانية التي تسرّع من خطاها، ولا تدفعها إلى التراجع، وإحداها وأهمّها من ناحية تل أبيب، استئناف الحرب لدفع الفلسطينيين بالقوّة إلى خارج القطاع، على أن تتولّى أميركا لاحقاً الإمساك بزمام الأمور، لدفع رؤية الترحيل وتثبيتها بشكل دائم.
من هنا، عبّر كثيرون في إسرائيل عن سعادتهم بـ»الفرصة الذهبية»، وطالبوا بضرورة استغلالها وتوفير كل مستلزماتها ومقدّماتها. ذلك أن الحرب لم تَعُد مطلباً لذاته، بل باتت مقدّمة لترتيب «مثالي» لليوم الذي يليها، عنوانه أن يكون القطاع خالياً تماماً من الفلسطينيين. في المقابل، واجهت حركة «حماس» تسويف إسرائيل في تنفيذ التزاماتها بتجميد إطلاق سراح ثلاثة أسرى لديها كان مقرّراً الإفراج عنهم غداً، ما أدى إلى صدمة في تل أبيب وواشنطن، عبّر عنها ردّ الفعل العنيف في كليهما. لكن، وعلى رغم التهديدات التي أطلقها الحليفان، ووصلت إلى حدّ تهديد ترامب بإلغاء الاتفاق و»فتح باب الجحيم»، إلا أن الأمور استقرّت على تسوية: تتراجع «حماس» عن قرار تجميد إطلاق الأسرى، على أن تبدأ إسرائيل تنفيذ التزاماتها، ومن بينها إدخال 12 ألف كرفان إلى شمال قطاع غزة، وزيادة كبيرة جداً في كميات الوقود التي تدخل يوميًّا إلى القطاع.
في خضم ذلك، تأتي زيارة روبيو للمنطقة لمدّة ثلاثة أيام متواصلة، جلّها في تل أبيب، في إطار سعي واشنطن ليس فقط إلى مراقبة الوضع أو الاستماع إلى وجهات النظر المختلفة، بل لمحاولة فرض الإرادات على كل الأطراف، بما يشمل إسرائيل أيضاً. وعلى رغم الخطاب العلني القاسي الذي أطلقته الولايات المتحدة ضدّ «حماس» بعد قرار تجميد الإفراج عن الأسرى، يبدو أن واشنطن هي أكثر الأطراف حرصاً على استمرار وقف إطلاق النار ومنع استئناف الحرب، وإلّا لكانت تل أبيب سمحت لنفسها بأن تستغلّ المتغيّرات، للدفع إلى تجديد القتال، ولكانت الإدارة جارتها في ذلك.
والواقع أن التغيير في المقاربة الأميركية، مع الإدارة الجديدة، مفهوم جداً في تل أبيب؛ إذ وفقاً لتعبيرات عبرية، كانت زيارات المسؤولين الأميركيين في الإدارة السابقة تهدف إلى طلب فعل أو طلب منع فعل، لكن بلا أسنان وبلا ضغط حقيقي. أمّا زيارات المسؤولين في إدارة ترامب، فمغايرة؛ وهي محلّ ترقُّب في إسرائيل لمعرفة ما تريده الإدارة، ولتتحرّك تل أبيب تحت سقفه. ويتّضح من عنوان زيارة روبيو، تركُّز الضغط الأميركي على الأطراف في المنطقة، وعلى إسرائيل تحديداً؛ إذ وفقاً لبيان الخارجية الأميركية، فإن الزيارة تهدف إلى «تعزيز المصالح الأميركية» في دعم التعاون الإقليمي والاستقرار والسلام، في إشارة إلى أولوية التطبيع لدى الإدارة على ما سواه من الملفات والقضايا الإقليمية. وأشار البيان أيضاً، في رسالة واضحة إلى تل أبيب، إلى أن واشنطن معنيّة باستمرار وقف إطلاق النار وإنجاح المرحلة الثانية منه أيضاً.
* الأخبار