كل ما يجري من حولك

الغزيّون يتنفّسون الصعداء عقبَ نهاية كابوس «نتساريم»

28

متابعات..| تقرير*

بالنسبة إلى رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، كان «محور نتساريم»، على أقلّ تقدير، «أحد الأصول الأمنية التي لن ينسحب منها الجيش تحت أيّ ظرف من الظروف»، بحسب ما كان يكرّره، فيما دأب المحللون العسكريون الإسرائيليون على وصف الحاجز الذي جرى استحداثه خلال الحرب بأنه «شوكة في حلق الغزيين». بالتوازي، كان أصحاب النفَس الانهزامي، من أبناء مجتمعنا، يروّجون لفكرة أنّ الحاجز يتعدّى كونه مجرد «فاصل بين منطقتين»، بل أصبح بمثابة «فاصل بين زمانين».

وبالفعل، قسّم «نتساريم» قطاع غزة إلى شقّين، شمالي وجنوبي، وقضم نحو 15% من مساحة القطاع، وصادر مئات الدونمات من أراضي أحياء الزيتون والمغراقة وجحر الديك وحيّ الزيتون ومدينة الزهراء والشيخ عجلين، وسط بروز بعض الأصوات التي تتهم المقاومة، التي كانت السبب خلف تحرير تلك المنطقة عقب «انتفاضة الأقصى» عام 2004، بالتسبب في إعادة الاحتلال إلى القطاع.

وعلى وقع تلك الادعاءات، انسحب، أول من أمس، آخر جنود الاحتلال من «المحور»، بعدما دمروا المواقع العسكرية والبنية التحتية اللوجستية التي عمدوا، طوال 15 شهراً، إلى بنائها واستخدامها كورقة من أوراق الدعاية النفسية، بما في ذلك أبراج الاتصالات وغرف النوم والمواقع العسكرية ومنظومة القبة الحديدية والإنذار المبكر، وطريق معبّد وبوابات للفحص والتفتيش وخطوط مياه وكهرباء وشبكات للصرف الصحي.

على هذا النحو، دمّر جنود الاحتلال بأيديهم كلّ ما بنوه، وسط موجة من الغضب في أوساط المؤسسة الأمنية وجوقة الصحافيين اليمينيين الإسرائيليين، ولا سيما أنّ هؤلاء كانوا يرافقون وزراء الائتلاف الحكومي، في زيارات متكررة إلى «المحور»، في إطار التمهيد لإعادة استيطان غزة، قبل أن يتّضح لهم أنّهم بالغوا في رفع سقف طموحاتهم.

دمر جيش الاحتلال المواقع العسكرية والبنية التحتية اللوجستية التي بناها طوال فترة الحرب

لقد كان البقاء الإسرائيلي في «نتساريم» الورقة التي من شأنها أن تضرب الوعي الفلسطيني الجمعي حول فكرة المقاومة وقدرتها على الإنجاز، وتروّج لفكرة أن عملية «طوفان الأقصى»، التي كان منوطاً بها أن تحرّر الأرض وتبيّض السجون من المعتقلين، أفضت إلى حدوث النقيض، من خلال التسبب باحتلال المزيد من الأراضي واعتقال الآلاف من الفلسطينيين. ولذا، فإنه في الشارع الغزي العائد لتوّه من حربٍ لم تشهدها الأجيال الفلسطينية في تاريخها، نال حدث الانسحاب طابعاً احتفالياً. وعلى الرغم من أنّ الاحتلال حاول «التنفيس» عن إحباطه من خلال تدمير آلاف المنازل وتجريف أراضٍ كانت مزروعة بالعنب والزيتون، يتجاوز عمر أصغر شجرة فيها عمر دولة الاحتلال، إلا أنّ مجرد المشي على الشارع العرضي الذي عبّده جيش العدو، ليصل الحدود الشرقية للقطاع بشاطئ البحر غرباً، والذي كان الصحافيون ينشرون مشاهد يومية من تطورات العمل به، بدا كفيلاً بخلق شعور بالنشوة في أوساط الغزيين.

«لقد انتهى أكبر كوابيسنا وهواجسنا وأحلامنا السود»، يقول الحاج أبو عوض الصواف وهو يجلس على تبة رملية في مقابل الممر الذي لا تزال «القوة العربية الدولية المشتركة» تسيطر عليه. ويضيف في حديثه إلى «الأخبار»: «ستة دونمات من الأرض وثلاثة بيوت، هذول كل ما أملكه في غزة. طوال شهور، كنت أعيش شعوراً صفرياً وأسكن في مدرسة إيواء بلا أمل. اليوم، بفضل الله وثبات المقاومة وتمسكها بمطالبنا، عدت لأرضي ورح أزرعها من جديد وأبنيها. يمكن المهمة صعبة، لكن الأصعب كان انسحابهم بعد الإبادة التي عشناها».

وعبر الحاجز الذي ينتشر فيه عدد من الجنود الأميركين، وفقاً لما تنص عليه المرحلة الأولى من اتفاقية وقف إطلاق النار، تتدفق المئات من السيارات العائدة من جنوب القطاع إلى شماله. وعلى مقربة من الحاجز، كانت مئات السيارات الأخرى تغادر شمال مدينة غزة إلى وسطها، علماً أن عبور سيارة واحدة من شمال القطاع إلى جنوبه، كان طوال شهور الحرب، يتطلّب تنسيقاً من «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» و«منظمة الصحة العالمية»، فيما كان إجلاء حالات صحية طارئة يستغرق أسابيع طويلة. وأثناء عبورها شمالاً، تقول الحاجة أم محمد مطر: «عشنا أيام سود، هذا قدر من يعيش في هذه الأرض، لكن هذه بلاد مباركة. وكلما شعر العدو بأنه شارف على إنهاء قضيتها، يجد نفسه يعود إلى نقطة الصفر».

* الأخبار البيروتية
You might also like