كل ما يجري من حولك

لا مناصَ من العودة.. في عراء «نتساريم»

31

متابعات..| تقرير*

تواصل حكومة الاحتلال عرقلة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعدما قررت، أخيراً، منع عودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، ما أجبر الآلاف على البقاء في العراء عند مدخل جسر وادي غزة، المؤدي إلى الشمال، في انتظار صدور قرار العودة. وخلافاً لما ينص عليه الاتفاق، ترهن إسرائيل عودة النازحين بإفراج المقاومة الفلسطينية عن مجنّدة إسرائيلية تُدعى أربيل يهود، تم أسرها من المستوطنات المحاذية لغزة في السابع من أكتوبر 2023، متجاهلة ضغوط الوسطاء، ومتسببة بتفاقم معاناة النازحين وتدهور أوضاعهم الإنسانية. وإذ بدأت الأخبار تتوارد، مع طلوع فجر أمس، عن أن الاحتلال لم يسحب قواته بعد، وأن العودة قد تتأجل مرة أخرى، سرعان ما ارتفع همس النازحين، قبل أن يتحول إلى غضب وإحباط ودموع صامتة.

وتعقيباً على ذلك، قال مصدر قيادي في “حماس”، في تصريح صحافي، إن المقاومة أبلغت الوسطاء بأن الأسيرة المعنية على قيد الحياة، وسيتم الإفراج عنها السبت القادم، في حين أكد مصدر مسؤول في حركة “الجهاد الإسلامي” أن يهود محتجزة لدى “سرايا القدس” بصفتها أسيرة عسكرية، مشيراً إلى أنها خضعت لتدريب في إطار “برنامج الفضاء” التابع لجيش الاحتلال. وأضافت الحركة أنه سيتم الإفراج عن يهود ضمن شروط صفقة التبادل المتفق عليها، محمّلة الحكومة الإسرائيلية مسؤولية أي عرقلة للاتفاق. والجدير ذكره، هنا، أنّ المرحلة الثانية من الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ في الـ19 من الجاري، تنص على السماح بعودة النازحين من الجنوب إلى الشمال، عبر ممرات شارع الرشيد وصلاح الدين، بدءاً من الـ25 من هذا الشهر، على أن تبدأ، في المرحلة الثالثة، عملية إعادة الإعمار.

وعلى مدخل وادي غزة، الذي يفصل بين جانبي القطاع، قضت عائلة الخضري ليلتها في العراء، مفترشة الأرض في البرد القارس، في انتظار انسحاب الجيش الإسرائيلي من حاجز “نتساريم”. وفي حديث إلى “الأخبار”، يقول رب الأسرة، محمود الخضري، البالغ من العمر 45 عاماً، وهو ينظر إلى الطريق الممتد أمامه، حيث يتجمع مئات النازحين، ويحمل بين يديه كيساً صغيراً فيه بعض الملابس والأوراق الرسمية: “كل ما أريده هو أن أفتح باب بيتي من جديد، أن أجد جدراني كما تركتها، أن أرى ذكريات أطفالي على الحائط. لكن الاحتلال لا يريد لنا حتى أن نحلم بذلك”. ولا يخفى على محمود خطر البقاء مع أسرته في العراء، إلا أن خيار العودة جنوباً يبدو مستحيلاً، ولا سيما أنه باع “معظم ما يملك” ليتمكن من الوصول إلى المكان الذي هو فيه. ويتابع بصوت مبحوح بسبب البرد: “لم يعد لدينا مكان نعود إليه سوى هذا الطريق. حتى المخيم الذي كنا نقيم فيه امتلأ بغيرنا من سكان رفح المهجرين، ونحن الآن عالقون بين قرار لم يصدر وبرد لا يرحم”.

حمّلت المقاومة حكومة الاحتلال مسؤولية أي عرقلة للاتفاق

وإلى جانبه، تجلس زوجته فاطمة (39 عاماً) تحت قطعة قماش مهترئة، حاولت أن تصنع منها مأوى مؤقتاً لأطفالها الثلاثة. وإذ غطّ صغيراها في النوم رغم قسوة البرد، بقيت هي تحتضن ابنتها الكبرى، التي لم تستطع التوقف عن الارتجاف. وتقول لـ”الأخبار”: “خلعت معطفي لأدفئ صغيرتي، لكنها لا تزال تشعر بالبرد… كيف يمكن لطفلة أن تنام وهي ترتجف؟”. وفي محاولة لإلهائهم عن قساوة الطقس، تحكي فاطمة لأبنائها قصصاً عن “الغد” الذي سيعودون فيه إلى بيتهم، رغم عدم يقينها مما إذا كان البيت لا يزال موجوداً.

“ولو كان ركاماً”
الليل ثقيل هناك؛ لا خيام ولا مأوى، بل فقط أجساد متعبة تفترش الإسفلت وأعين تترقب من بعيد أي إشارة إلى انسحاب الجنود الإسرائيليين من حاجز “نتساريم”، لعل العودة إلى غزة تصبح حقيقة بعد أشهر من النزوح والحرمان. وعلى قارعة الطريق بالقرب من وادي غزة، جلست أم ياسر عبادة (42 عاماً) على قطعة كرتون مهترئة إلى جانب أطفالها: “لا يهمني إن كان بيتي قد أصبح ركاماً، سأعود إليه وأجلس فوقه، سأبحث بين الحجارة عن شيء يخص زوجي، عن شيء يذكّرني بأننا كنا هنا يوماً ما”: تقول أم ياسر لـ”الأخبار”، بعدما فقدت زوجها خلال القصف الإسرائيلي على غزة في بداية الحرب.

وكانت أم ياسر قد وصلت إلى مدخل وادي غزة منذ يومين، أي فور سماعها أن الاتفاق المبرم بين المقاومة وإسرائيل يسمح بعودة النازحين إلى مدنهم في الشمال. وعليه، باعت كل ما تبقى لديها من طعام وماء في السوق، لتدفع أجرة العربة التي نقلتها وأطفالها إلى هنا، ظناً منها أن الطريق سيكون مفتوحاً، وأن الرحلة ستنتهي عند عتبة منزلها. وتردف وهي تحاول تهدئة صغيرها الذي لم يتوقف عن البكاء منذ الصباح: “كنا نظن أن الحرب انتهت، لكن الاحتلال يريد أن يقتلنا ببطء. جعلونا ننتظر في هذا البرد، من دون بطانيات أو طعام. حتى الماء بدأ ينفد”.

ورغم قسوة الانتظار، لم تفكر أم ياسر في أن تعود أدراجها؛ فبالنسبة إليها، لا خيار سوى المضي نحو غزة، نحو منزلها، حتى لو لم يتبقَّ منه شيء، مؤكدةً بنبرة ملؤها الإصرار: “لو فتحوا لنا الطريق، سأبحث عن حجارة بيتي، سأجلس فوقها، سأبني من جديد… نحن لا نطلب المستحيل، نريد فقط العودة إلى ما تبقّى لنا من وطن”.

* الأخبار

افترش غزيون الأرض على مدخل وادي غزة، في انتظار انسحاب الجيش الإسرائيلي من حاجز نتساريم (أ ف ب)
You might also like