نتنياهو يتحلّلُ من الضمانات.. غموضُ ما بعد المرحلة الأولى
يقترب اتفاق تبادل الأسرى بين العدو الإسرائيلي وحركة «حماس» من التبلور، وفقاً للمعطيات الواردة من الجانبين ومن الوسطاء على السواء. إذ تجاوزت المفاوضات أكثر المسائل إشكالية، بعد أن جرى التفاهم على العناوين العامة، وإن كان جزء من التفاصيل ما يزال عالقاً، في انتظار حلول لا يبدو أنها مستعصية. وإذ يؤشر ذلك إلى أن التنفيذ بات مرجحاً إن لم يعمد العدو إلى معاودة وضع العراقيل وفقاً لما اعتاده في الماضي، فإن سؤالاً يُطرح حول ما إذا كانت الصفقة ستُنفّذ قبل دخول الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض خلال أيام، وفقاً لما يرغب فيه الأخير، أم أن ترجمة الاتفاق ستتأخر، بما يضع الطرفين أمام إشكالية استئناف المفاوضات في مرحلة ما بعد التسلم والتسليم في واشنطن، ودخول الإدارة الجديدة على خط التفاوض بشكل أكبر مما هي عليه الآن؟ وعلى أي حال، فإن التهويل بما سيلي تنصيب ترامب مبالَغ فيه؛ إذ إن إدارته العتيدة تمثّل جزءاً لا يتجزأ من عملية التفاوض الحالية وطرفاً رئيسياً فيها، وهو ما أكده المبعوث المقبل لترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، الذي يدير بدوره المفاوضات في الدوحة، بفاعلية وتأثير أكثر من شركائه ممّن هم ممثِّلون للإدارة الحالية.
وفي هذا السياق، يبعث مستشارو ترامب ومبعوثوه برسائل تهديد وتهويل إلى حركة «حماس»، بهدف حثّها على تقديم مزيد من التنازلات، والإسراع في قبول الشروط الإسرائيلية كما هي بلا تحفظات، مع التخويف من أنه في حال فشل الجولة الحالية من المفاوضات، فستكون شروط التوصل إلى اتفاق مع إدارة ترامب أسوأ بكثير بالنسبة إلى الفلسطينيين، لا بل إن الرئيس الجديد سيطلق يد إسرائيل لإنهاء حركة «حماس» في غزة، وكأن الإدارة الحالية بخلت على تل أبيب بالسماح لها بفعل كل ما تريده في القطاع، من دون أيّ تحفظات عملية. والمبالغة الأميركية هنا، هي سلاح ذو حدين؛ فإن كان يراد منها تخويف «حماس» والفلسطينيين، فهي تُظهر أن ترامب مستعجل جدّاً لإبرام الصفقة، ولا يريد التورط المباشر في مفاوضات وأخذ ورد و«وجع رأس» في الشرق الأوسط، يحرف اهتماماته عن قضايا شائكة وأكثر إلحاحاً أمام إدارته، في الداخل الأميركي كما في الخارج.
على أن من الإشكاليات التي قد تمنع تبلور الصفقة، أنها تتعلق باتفاق جزئي، وبمرحلة أولى يجري تنفيذها من دون أي ضمانة بإتباعها بمرحلة ثانية من شأنها أن تنهي الحرب وتؤدي إلى الانسحاب الإسرائيلي من غزة. وإذ كانت هذه الإشكالية كافية بذاتها لعرقلة أي اتفاق جزئي في السابق، فإن الحديث يدور الآن عن مرونة يبديها الجانبان بخصوصها، بما يتيح إطلاق المرحلة الأولى من الاتفاق، من دون أن يتحول ذلك إلى قوة دفع ثانية للمرحلة التالية، والتي لا تريد إسرائيل الإعلان عن التزام بإنهاء الحرب فيها.
يسعى نتنياهو إلى إنهاء الشق الأول من الاتفاق بلا عوائق وبلا التزامات لاحقة
وعليه، يُعمل على تدوير الزوايا بما يمكّن الطرفين من تفسير صفقة التبادل، وتحديداً المرحلة الثانية منها، كما يريدان، وبما لا يكسر أيّاً منهما. وعليه، لن تلتزم إسرائيل بأي تعهد علني بالانسحاب أو إنهاء الحرب، لكنها ستعيد نشر قواتها بما يشمل محورَي «فيلادلفي» و«نتساريم»، ويصل إلى حدّ انكفاء كبير نحو المناطق القريبة من حدود القطاع. وفي المقابل، تتلقى «حماس» ضمانات من واشنطن ومن الوسطاء بانسحابات إسرائيلية كبيرة ومعتدّ بها، مع التزام بوقف الأعمال القتالية بما يصل إلى حالة إنهاء الحرب، وإن من دون التزام إسرائيلي علني بما تقدّم.
وبالتوازي مع ما تقدّم، يضغط الوسطاء على الطرفين لإبداء مرونة عالية بخصوص المرحلة الأولى، بما يتيح إطلاق سراح أكبر عدد ممكن من الأسرى الإسرائيليين الأحياء، في مقابل الإفراج عن أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين، بما يشمل «أسرى وازنين»، وإن كان شرط إسرائيل الابتدائي، قبل النظر في هويات هؤلاء وأعدادهم، ترحيلهم إلى دولة ثالثة. ويبدو أن الاتجاه يتركز حالياً على تعويض «حماس» في المرحلة الأولى من الصفقة، عبر زيادة العائدات والفوائد المتأتّية من هذه الأخيرة، مقابل كل «إبهام» يتعلّق بالمرحلة الثانية. على أن ذلك يثير أكثر من علامة استفهام، ويدفع نحو نوع من اللايقين، الذي قد يرتدّ سلباً على الاتفاق كله، رغم أن إشارات بلورته وتنفيذه، خاصة في مرحلته الأولى، مرجحة أكثر ممّا كانت عليه في أي وقت مضى.
وبالفعل، بدأ رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، مفاوضات موازية مع شركائه في الائتلاف الحكومي، وتحديداً حزبي «الصهيونية الدينية» برئاسة الوزيرين بتسلئيل سموترييش وإيتمار بن غفير، اللذين يبدو معنياً بإقناعهما بأنه يبلور اتفاقاً يكفل إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، من دون أن يعني ذلك إنهاء الحرب والانسحاب من القطاع. فهل التوصل إلى اتفاق حمّال أوجه، يكفل لنتنياهو تلبية شروط أعدائه وخصومه وشركائه على السواء، متاح؟ الأكيد أن نتنياهو يحاول تسويق الصفقة لدى سموتريتش وبن غفير، بمساعدة من كلّ من رئيس «الموساد» دافيد برنياع، ورئيس «الشاباك» رونن بار، في حين أن شريكَيه من اليمين المتطرف سيعارضان الاتفاق على أي حال، لكنهما لن يسقطاه، الأمر الذي يتيح لهما الحفاظ على صورة رفض «التنازل» والقبول بـ«الاتفاقات غير المشروعة»، فيما هما في الواقع يسهلان إتمام الصفقة كما يريدها نتنياهو، خاصة مع تلقيهما وعوداً بأن إنهاء الحرب والانسحاب من القطاع أمران غير واردَين حالياً.
بالنتيجة، يسعى نتنياهو إلى إنهاء الشق الأول من الاتفاق بلا عوائق وبلا التزامات لاحقة – وهو ما سيحدث على الأرجح -. وإذا كان رئيس حكومة العدو قد سهّل في الغرف المغلقة، عبر التزامات غير معلنة، مسار التفاوض، فإن هذه الالتزامات لا تعني كثيراً في ما يتعلّق بالمرحلة الثانية، التي ستكون لها محدداتها الخاصة بها، ومن بينها ما لم يتبلور إلى الآن.
* الأخبار