متابعات..| تقرير*

تبدو الظروف الإقليمية والدولية مؤاتية لإسرائيل، لتنفيذ مشروعها الذي انتظرته عقوداً، والمتمثّل في ضم الضفة الغربية، وإعلان سيادتها عليها. والواقع أن الاحتلال اشتغل، طوال العقود الماضية، تحت مظلّة عملية السلام والمفاوضات، وترهُّل السلطة الفلسطينية وضعفها، كما الهرولة العربية نحو التطبيع، والغطاء الدولي وتحديداً الأميركي، على إنجاز خطةّ الضم على الأرض، ولم يتبقَّ أمامه سوى إعلان ذلك رسمياً والبدء بتطبيقه، ما يعني أن الضفة ستدفع الفاتورة الأكبر في المدة المقبلة. ولعلّ ما يزيد إسرائيل ثقةً بقرب تحقُّق خططها، فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، كون هذا الأخير منحها، إبّان ولايته الأولى، الضوء الأخضر لعملية الضمّ، في إطار صفقة القرن، التي استبق الكشف عنها بإعلان القدس عاصمةً للكيان، قبل أن يتوّج خطوته بنقل سفارة بلاده إلى المدينة المقدسة.

ومن جهتها، لا تُبدي السلطة الفلسطينية أيّ ردّ فعل أو تحضيرات لمواجهة ما هو قادم من مخطّطات لضمّ الضفة؛ إذ تواصل الركون إلى الأدوات السياسية والديبلوماسية كما جرت عليه العادة في العقود الماضية، رغم عدم تحقيقها نتائج مرضية. وفيما تؤكد السلطة رفضها أيّ شكل من أشكال الصدام المباشر مع الاحتلال، وتحديداً العسكري، فهي عملت، في السنوات الماضية، على تقليم أظفار الشعب الفلسطيني، واحتواء أيّ مظاهر للمقاومة ليس فقط المسلحة، بل أيضاً الشعبية والجماهيرية والنقابية. وتجلّى ما تقدّم منذ بدء الحرب على قطاع غزة، حيث بدا ضعف الحراك الجماهيري والشعبي، والذي تعود أحد أسبابه وليس كلّها إلى ممارسات السلطة الفلسطينية. ورغم توقّعات المراقبين بأن يؤدي إعلان إسرائيل عن ضم الضفة وفرض السيادة عليها، إلى تصاعد المقاومة على الأرض (الشعبية والمسلحة على السواء)، إلا أن ذلك سيكون منوطاً بمدى توافر الإرادة السياسية لدى السلطة للسماح بهكذا سيناريو من جهة، ومدى قدرة الفصائل والأحزاب والقوى على تجييش الشارع وحشد الجماهير، بعد سنوات من التقييد الذي فرضته السلطة ومن ورائها إسرائيل.
وحضرت تلك العوامل في الضفة منذ بدء العدوان على غزة، في محاولة لمنع تحوّلها إلى جبهة أخرى من جبهات المواجهة، وهو ما يفسّر اعتقال إسرائيل أكثر من 10 آلاف مواطن هناك، منذ السابع من أكتوبر، فضلاً عن قتل نحو 800 فلسطيني، وإصابة 6300، وهدم نحو 1750 منشأة ومنزلاً، إلى جانب فرض عوازل بين القرى والمدن من حواجز عسكرية وبوابات تجعل الانتقال من مكان إلى آخر أشبه برحلة في الجحيم. وشدّدت السلطة، بدورها، من قبضتها من أجل تحجيم ردّ الفعل الشعبي، خشية انفلات الأوضاع، من دون إغفال ملاحقة المقاومين ومحاولة احتواء مظاهر المقاومة المسلحة في شمال الضفة.

حالة المقاومة التي تشكّلت في شمال الضفة لن تستطيع مواجهة مخطط الضمّ منفردةً

وفي الحقيقة، لم تشهد الضفة هدوءاً منذ بدء الحرب، إذ كانت، قبل السابع من أكتوبر بسنوات، تعيش حالة استنزاف يومية، تفاقمت حدّتها وقسوتها خلال الحرب، مع استخدام إسرائيل كل أدوات التنكيل والتعذيب والقتل. وينطبق ذلك أيضاً على فلسطينيي الداخل المحتل، حيث فعّل الاحتلال ضدّهم أجهزته الاستخبارية والشرطية لقمع أيّ تحرك أو تفاعل، خشية تكرار ما حدث في معركة «سيف القدس» عام 2021. وهكذا، شهدت المدن الفلسطينية في الداخل استهدافاً مكثفاً وتحريضاً من المجتمع الإسرائيلي بكل مكوناته السياسية والإعلامية والأمنية، في ما تُرجم بتعرّض الفلسطينيين لملاحقات سواء جنائية أو في أماكن العمل والتعليم، تراوحت بين الاعتقال، والاستدعاء إلى التحقيق، وتقديم لوائح اتهام وطلبات اعتقال، وغيرها من الإجراءات القانونية، بتهم خطيرة، من مثل «دعم الإرهاب».
ورغم حالة المقاومة التي تشكّلت في شمال الضفة في السنوات الماضية، والتي تحظى بحاضنة شعبية كبيرة، فهي لا تزال في طورها المتواضع من ناحية التسليح والإمكانات، ولن تستطيع على أيّ حال مواجهة مخطط الضمّ منفردةً، والذي لا يمكن مواجهته إلا بإحداث تغيير جذري في كل الحالة الفلسطينية: سواء الانقسام الداخلي، واستمرار السلطة في السياسة نفسها، والابتعاد عن الشارع والجماهير من قِبَل القيادات والأطر، وبلورة خطّة نضالية يتمّ بموجبها تشكيل قيادة وطنية. ولعلّ ذلك يتطلّب من السلطة أيضاً إيقاظ مخاوف العالم والإقليم ممّا يحدث، خاصة لدى دول الطوق، وعلى وجه الخصوص الأردن، الذي سيصبح أمام واقع جديد. وما يجعل الحاجة ملحة إلى تلك الخطوات، أن نظرية «حسم الصراع» التي وضعها وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، وتبنّتها حكومة بنيامين نتنياهو، باتت واضحة، إذ لا تقتصر على الضفة الغربية، بل تطال كل فلسطين التاريخية، وتضع الفلسطينيين أمام خيارات الاستسلام والخنوع للاحتلال، أو الهجرة إلى دولة ثالثة مع تسهيلات ومساعدات إسرائيلية، أو الموت والسجن.
ورغم كل ما قد يُقال عن ردّ الفعل الفلسطيني إزاء مخطّط ضم الضفة في حال إقراره، إلا أن جزءاً من ذلك الفعل يبقى خارج التوقعات والحسابات، وهو ما ثبت بالتجربة في العقود الماضية، إذ لم تكن انتفاضة الحجارة عام 1987 متوقعة، والأمر نفسه ينسحب على «هبة البراق»، و«انتفاضة الأقصى»، و«انتفاضة السكاكين»، وغيرها من المحطات النضالية، والقائمة على أرضية صلبة من الصمود. ولذا، فإن نظرية «حسم الصراع» ستضع الفلسطينيين ليس أمام انتمائهم الوطني فقط، بل أمام مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وبالتالي سيكونون أمام خيارات قليلة جداً، ومنها المواجهة.

* الأخبار البيروتية